نَبْعُ الْحَنَانِ وَوَاحَةُ الإِحْسَانِ
الْحَمْدُ
للهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، اللَّطِيفِ بِالْعِبَادِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالْخَلْقِ
وَالإِيجَادِ، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَسْمَعُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى،
خَلَقَ فَقَدَّرَ، وَشَرَعَ فَيَسَّرَ، } نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي
بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {.
أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ، الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، عَظِيمُ الْمَزَايَا وَكَرِيمُ الْخِصَالِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ
عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ صَحْبٍ وَآلٍ!
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ U
وَصِيَّتُهُ لَكُمْ وَلِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَهُوَ الْقَائِلُ: }وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ{ ،
فَاتَّقُوا اللهَ -أَحِبَّتِي فِي اللهِ- جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ
عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ :
أَخْبَرَ
النَّبِيُّ e أَصْحَابَهُ، خَبَرَ
رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، مُجَابُ الدَّعْوَةِ لَوُ
أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ ، فَقَالَ e
: (( يَأْتِي عَلَيْكُمْ
أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ))ـ
وَالْأَمْدَادُ جَمْعُ مَدَدٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ مَا كَانَ يَأْتِي مِنَ
الْأَجْنَادِ مَدَدًا لِجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ (( يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ
عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ
بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا
بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ )).
فَكَانَ عُمَرُ t إِذَا أَتَى عَلَيْهِ إِمْدَادُ أَهْلِ
الْيَمَنِ، يَسأَلُهُمْ عَنْ أُوَيْسٍ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى
أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: آنْتَ
أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ
دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ. ثُمَّ
طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ .
تَأَمَّلُوا
هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الْعَظِيمِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللهِ لَأَبَرَّهُ! يَعْنِي: لَوْ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ يَكُونَ كَذَا، أَوْ أَنْ
لَا يَقَعَ كَذَا ، أَوْ قَالَ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ بِكَذَا وَكَذَا
فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ ، بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ يَبَرُّ قَسَمَهُ.
أَتَدْرُونَ
لِمَاذَا؟ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ حَسَبِهِ وَلَا نَسَبِهِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ قَبِيلَتِهِ
وَعَشِيرَتِهِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ مَرَاتِبِهِ وَأَرْصِدَتِهِ ، إِنَّمَا مِنْ
أَجْلِ عَمَلٍ عَظِيمٍ يُحِبُّهُ اللهُ U
، أَلَا وَهُوَ بِرُّهُ بِوَالِدَتِهِ، أُمِّهِ الَّتِي أَنْجَبَتْهُ، يُحْسِنُ
إِلَيْهَا وَيَصِلُهَا وَيَرْفُقُ بِهَا وَيُحْسِنُ مُعَامَلَتَهَا وَيُطِيعُهَا ،
يَفْعَلُ ذَلِكَ مَحَبَّةً لَهَا .
الْأُمُّ يَا
عِبَادَ اللهِ، نَبْعُ الْحَنَانِ، وَحِصْنُ الْأَمَانِ، وَوَاحَةُ الْإِحْسَانِ،
رَفَعَ قَدْرَهَا اَللهُ U ، فَقَرَنَ شُكْرَهَا
بِشُكْرِهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهَا بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: }وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {
. الْأُمُّ؛ هِيَ الْوَالِدَةُ الْحَنُونُ، صَاحِبَةُ الْقَلْبِ الرَّحِيمِ ،
الَّتِي حَمْلُهَا كُرْهٌ وَوَضْعُهَا كُرْهٌ ، تُغَذِّي بِصِحَّتِهَا، وَتُقَوِّي
بِضَعْفِهَا ، وَتَتَحَمَّلُ فَوْقَ طَاقَتِهَا . الْأُمُّ ذَاتُ الرَّحْمَةِ،
الَّتِي لَا يَفُوقُ رَحْمَتَهَا بِوَلَدِهَا رَحْمَةٌ إِلَّا رَحْمَةُ
الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ؛ فَفِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ t قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ e بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ
تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ
بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ e: (( أَتَرَوْنَ
هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ )) قُلْنَا: لَا ،
وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e: (( لَلَّهُ
أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ))،
فَلَيْسَ هُنَاكَ كَالْأُمِّ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُفْقَدُ
قَدْ يُعَوَّضُ، إِلَّا فَقْدَ الْأُمِّ فَلَا وَاللهِ لَهُ عِوَضٌ أَبَدًا،
وَكَمْ مِنْ أُسْرَةٍ اخْتَلَّتْ حَيَاتُهَا ، وَانْتَهَتْ سَعَادَتُهَا ،
وَتَشَتَّتَ جَمْعُهَا، عِنْدَمَا مَاتَتْ أُمُّهُمْ .
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ e فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (( أُمُّكَ )) قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: (( ثُمَّ أُمُّكَ )) قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (( ثُمَّ
أُمُّكَ )) قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (( ثُمَّ أَبُوكَ )) .وَفِيْ
اَلْحَدِيْثِ اَلْصَّحِيْحِ عَنْ مُعَاْوُيَةَ اَلْسُّلَمِيْ t،
قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ
أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ قَالَ: (( وَيْحَكَ ،
أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ )) قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ: (( ارْجِعْ فَبَرَّهَا )) ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ
الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ
الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
قَالَ: (( وَيْحَكَ ، أَحَيَّةٌ
أُمُّكَ؟ )) قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : (( فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا )) ثُمَّ
أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ
أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ، قَالَ: (( وَيْحَكَ،
أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (( وَيْحَكَ ، الْزَمْ رِجْلَهَا ،
فَثَمَّ الْجَنَّةُ )) .
عَبْدَ اللهِ :
يَقُولُ } : Uوَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {
. فَمَنْ لَكَ مِثْلُ أُمِّكَ؟ حَمَلَتْكَ فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ، وَوَضَعَتْكَ وَأَرْضَعَتْكَ وَنَظَّفَتْكَ وَرَعَتْكَ، جَعَلَتْ فِيكَ
جَمِيعَ أَحْلَامِهَا ، وَعَلَّقَتْ بِكَ آمَالَهَا ، وَلِأَجْلِكَ نَسِيَتْ
هُمُومَهَا وَآلَامَهَا، صِحَّتُهَا غِذَاؤُكَ ، وَدَرُّهَا طَعَامُكَ،
وَحِجْرُهَا وِطَاؤُكَ ، رَبَّتْكَ صَغِيرًا، وَصَبَرَتْ عَلَيْكَ كَبِيرًا،
وَأَعْطَتْكَ مِنَ الْبِرِّ وَالْعَطْفِ وَالْحَنَانِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَوَاللهِ
ثُمَّ وَاللهِ، لَوْ بَذَلْتَ عُمْرَكَ كُلَّهُ، فِي رَدِّ جَمِيلِهَا مَا اسْتَطَعْتَ
إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، بَلْ وَلَا بِطَلْقَةٍ مِنْ طَلْقَاتِهَا، قَالَ رَجُلٌ
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t: إِنَّ لِي أُمًّا بَلَغَ مِنْهَا الْكِبَرُ
أَنَّهَا لَا تَقْضِي حَوَائِجَهَا إِلَّا وَظَهْرِي لَهَا مَطِيَّةٌ. فَهَلْ
أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: لَا ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِكَ ذَلِكَ وَهِيَ
تَتَمَنَّى بَقَاءَكَ، وَأَنْتَ تَصْنَعُهُ وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِرَاقَهَا .
لَكِنَّكَ مُحْسِنٌ وَاللهُ يُثِيبُ الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
قَلِيلٌ هُمُ
الَّذِينَ يَبَرُّونَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَثِيرٌ هُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنْ
اَلْعُقُوْقِ مُنْتَهَاْهُ. أَحَدُهُمْ هَجَرَ أُمَّهُ عَامًا كَامِلًا لَاْ
يُكَلِّمُهَاْ. وَآخَرُ أُمُّهُ تَسْتَجْدِي النَّاسَ ، وَقَدْ تَرَكَهَا
إِكْرَامًا لِزَوْجَتِهِ، وَتِلْكَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْعِظَامِ ، وَالْكَوَارِثِ
الْجِسَامِ الَّتِي يُعَانِي مِنْهَا بَعْضُ الْأُمَّهَاتِ؛ أَنْ يَعُقَّ
الْإِنْسَانُ أُمَّهُ إِكْرَامًا لِزَوْجَتِهِ . بَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ بِرُّهُ
خَوْفًا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَتَجِدُهُ يَبَرُّ بِأَبِيهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ
قَدْ يَطَّلِعُونَ عَلَى بِرِّهِ لَهُ ، وَلَكِنْ تَأَمَّلْ بِرَّهُ بِأُمِّهِ ، تَجِدُهُ
مِنْ أَقْطَعِ النَّاسِ، وَأَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ بِرِّهَا ، يَمُرُّ عَلَى أَحَدِهِمُ
الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ، بَلِ الْعَامُ وَالْعَامَانِ ، مَا زَارَ أُمَّهُ ،
وَالسَّبَبُ هُوَ أَنَّ زَوْجَتَهُ لَا تُرِيدُهَا ، بِنْتُ النَّاسِ لَا تُرِيدُ
أُمَّهُ! فَهَجَرَ أُمَّهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- ، وَبَعْضُهُمْ أُمُّهُ
عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَسُومُهَا سُوءَ الْعَذَابِ فِي
تَصَرُّفَاتِهِ، إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ وَبِجَبِينٍ
مُكْفَهِرٍّ، وَلَكِنِ انْظُرْ حَالَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ ، ضَحِكَاتٌ مُتَعَالِيَةٌ
، هَدَايَا غَالِيَةٌ ، مِزَاحٌ وَتَنْكِيتٌ .فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ،
بَرُّوا أُمَّهَاتِكُمْ ، فَوُجُودُهُنَّ وَاللهِ فُرْصَةٌ لَا تُعَوَّضُ .
أَسْأَلُ
اللهَ U أَنْ يَرْزُقَكُمْ
ذَلِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِأُمَّهَاتِنَا ، إِنَّكَ سَمِيعٌ مُجِيبٌ ،
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ
فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ
للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ
، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :
يَجْهَلُ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَعْنَى الْبِرِّ ، فَبَعْضُهُمْ إِذَا جَعَلَ أُمَّهُ
عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ، مَعَ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، يُعَامِلُهَا
كَمُعَامَلَتِهِ لِأَحَدِهِمْ ، أَوْ جَعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْهُ ، فَزَارَهَا
مَرَّةً فِي الْأُسْبُوعِ، أَوِ اسْتَقْدَمَ لَهَا شَغَّالَةً أَوْ جَاءَ لَهَا
بِسَائِقٍ اعْتَبَرَ ذَلِكَ غَايَةَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، فَلِهَؤُلَاءِ
وَغَيْرِهِمْ نَذْكُرُ بَعْضَ صُوَرِ الْبِرِّ مِنْ بَابِ الذِّكْرَى، وَكَمَا
قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ {
.
مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ إِذَا كَلَّمَ أُمَّهُ كَأَنَّهُ يَتَضَرَّعُ، وَقَالَ ابْنُ عَوْفٍ:
دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَهُوَ عِنْدَ أُمِّهِ، فَقَالَ: مَا
شَأْنُ مُحَمَّدٍ؟! أَيَشْتَكِي شَيْئًا؟! قَالُوا: لَا ، وَلَكِنْ هَكَذَا يَكُونُ
إِذَا كَانَ عِنْدَ أُمِّهِ. وَهَذَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
زَيْنُ الْعَابِدِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ،
وَكَانَ كَثِيرَ الْبِرِّ بِأُمِّهِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ مِنْ أَبَرِّ
النَّاسِ بِأُمِّك، وَلَسْنَا نَرَاكَ تَأْكُلُ مَعَهَا فِي صَحْفَةٍ ، فَقَالَ:
أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَ يَدِي إِلَى مَا سَبَقَتْ إِلَيْهِ عَيْنُهَا ، فَأَكُونُ
قَدْ عَقَقْتُهَا. وَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- طَلَبَتْ
أُمُّهُ أَنْ يَسْقِيَهَا مَاءً فِي بَعْضِ اللَّيَالِي ، فَجَاءَهَا بِالْمَاءِ
فَوَجَدَهَا قَدْ ذَهَبَ بِهَا النَّوْمُ ، فَثَبَتَ عِنْدَ رَأْسِهَا حَتَّى
أَصْبَحَ .
وَهَذَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وَهُوَ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقْعُدُ فِي حَلْقَتِهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ وَيَأْتِيهِ
الطُّلَّابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لِيَسْمَعُوا عَنْهُ فَتَقُولُ لَهُ أُمُّهُ
وَهُوَ بَيْنَ طُلَّابِهِ: قُمْ يَا حَيْوَةُ ، فَأَطْعِمِ الدَّجَاجَ ، فَيَقُومُ
وَيَتْرُكُ التَّعْلِيمَ .
وَيَقُولُ
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: بَلَغَتِ
النَّخْلَةُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَلْفَ
دِرْهَمٍ، قَالَ: فَعَمَدَ أُسَامَةُ إِلَى نَخْلَةٍ فَنَقَرَهَا وَأَخْرَجَ
جُمَّارَهَا ، فَأَطْعَمَها أُمَّهُ ، فَقَالُوا لَهُ : مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا
، وَأَنْتَ تَرَى النَّخْلَةَ قَدْ بَلَغَتْ أَلْفًا؟ فَقَالَ: (( إِنَّ أُمِّي
سَأَلَتْنِيهِ ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَعْطَيتُهَا
))
.
وَعَبْدُ اللهِ
بْنُ عَوْنٍ نَادَتْهُ أُمُّهُ فَعَلَا صَوْتُهُ صَوْتَهَا، فَأَعْتَقَ
رَقَبَتَيْنِ. وَكَانَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ لَا يَمْشِي فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتٍ
وَأُمُّهُ تَحْتَهُ إِجْلَالاً لَهَا وَتَوْقِيرًا .
وَبَكَى
إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حِينَ مَاتَتْ أُمُّهُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ
فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ
فَأُغْلِقَ أَحَدُهُمَا ، وَحُقَّ لِعَيْنِ بُكَاهَا .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
هِيَ دَعْوَةٌ
صَادِقَةٌ، أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ الْمُبَارَكِ، إِلَّا وَقَدْ
عَاهَدْنَا اللهَ U أَنَّ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدَيْهِ
خِصَامٌ أَوْ خِلَافٌ، أَنْ يُصْلِحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَمَنْ كَانَ مُقَصِّرًا
فِي بِرِّ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُبَادِرَ فِي وَفَاءِ بِرِّهِ، وَأَنْ يَبْذُلَ مَا
بِوُسْعِهِ، وَمَنْ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى ذَلِكَ،
وَمَنْ كَانَ وَالِدَاهُ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَلْيُصْلِحْ نَفْسَهُ لَهُمَا،
وَيَتَصَدَّقْ عَنْهُمَا، وَيَصِلْ صَدِيقَهُمَا .
أَسْأَلُ
اللهَ U أَنْ يُعِينَنَا عَلَى
بِرِّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَا ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِرَّ
وَالِدِينَا ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيًّا ، فَاجْعَلْنَا بِهِ
بَرَرَةً ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا ، فَاللَّهُمَّ اجْمَعْنَا بِهِ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لَنَا وَلِأُمَّهَاتِنَا وَلآبَائِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رَاضِينَ
عَنَّا ، اللَّهُمَّ وَفِّقِ الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ ، وَيَسِّرْ أُمُورَهُمْ،
وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لِلْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ وَنَوِّرْ قُبُورَهُمْ، اللَّهُمَّ
اجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرًا، اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا بِهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ ،
بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ . اللَّهُمَّ رَبَّنَا تَقَبَّلْ
تَوْبَتَنَا ، وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا ، وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا ، وَاهْدِ قُلُوبَنَا
، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا ، وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا ، وَاسْلُلْ سَخِيمَة
قُلُوبِنَا .
}رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
.
عِبَادَ اللهِ: }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{
.
فَاذْكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى
وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|