( اتَّقُوا
اللهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ )
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى وراقِبُوه، واعْلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ لا مَحالَة،
وَواقِفُون بَيْنَ يَدَيْه وَمُحاسَبُون، فَأَيْقِنُوا بِذلك حَقَّ اليقيِن،
وإيَّاكُم والغَفْلَةَ عن ذلك، قال تَعَالَى: ( وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )،
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْكُمْ
أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ،
فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ،
وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وجهِه، فاتَّقُوا النارَ ولو
بِشِقِّ تَمْرَة ).
يا لَه مِن حَدِيثٍ عَظيمٍ، ويا لَها مِن
مَوْعِظَةٍ بَلِيغَةٍ، تَوْجَلُ مِنها القُلُوبُ، وتَقْشَعِرُّ مِنها الجُلُودُ.
تُذَكِّرُ
الْمُؤْمِنَ بِأَنَّه لا مَفَرَّ مِن اللهِ إلَّا إلى
اللهِ، وتُذَكِّرُهُ بِأَنَّه ما مِن
أحَدٍ كائِنًا مَن كان، إلا سَيَقِفُ بَيْنَ يَدَي اللهِ، وتُذَكِّرُهُ بالْمُسْتَقْبَلِ الحَقِيقِيِّ
الذي يَجِبُ أَنْ يُؤَمَّن، فإنَّ أَكْثَرَ الناسِ إذا تَكَلَّمُوا عَن تَأْمِينِ
الْمُسْتَقْبَلِ، لا يَذْكُرونَ إلا الدُّنيا الفانِيَةَ وَمَا يتَعَلَّقُ بِها.
تُذَكِّرُ
الْمُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ الذي خَلَقَه وأَوجَدَه مِن العَدَمِ،
وكَلَّفَه بِعِبادَتِه، سَيُكَلِّمُهُ مُباشَرَةً، بِلَا واسِطَةٍ، كَلَامًا
حَقِيقِيًّا يَسْمَعُهُ الْمُخاطَبُ، وفي هذا إثباتُ صِفَةِ الكَلامِ للهِ، عَلَى
الوجْهِ اللاَّئِقِ بِجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِه، مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا
تَعْطِيلٍ، ومِنْ غيرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيل.
فَحِينَها يَنْظُرُ عَن يَمِينِه، فلا يَرَى
أَمْوالَه وَلَا أَولادَه، ولا حَسَبَه، ولا نَسَبَه، ولا مَنْصِبَه، ولا
قُوَّتَه، ولا فَصاحَتَه، ولا شَهادَتَه، ولا مَنْ كان يَدْعُوهُم مِنْ دُونِ الله،
لِأَنَّ ذلك كُلَّه لا يُقَرِّبُ عِنْدَ اللهِ زُلْفَى.
فَعِنْدَ
ذلك يُوقِنُ بِأَنَّه خُلِقَ فَقَط لِعِبادَةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، خُلِقَ
لِلإيمانِ باللهِ ورَسُولِه، وفِعْلِ أوامِرِهِ واجْتِنابِ نَواهِيه، خُلِقَ
لِلاسْتِعْدادِ قَبْلَ الْمَوتِ لِما بَعْدَ الْمَوت. وَلِذَلِكَ قالَ: ( فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ
مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ
)، هذا هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ الذي يَنْتَظِرُنا، والذي لا نَسْتِطِيعُ أَن
نَهْرُبَ مِنْه. فاحْرِصْ عِنْدَمَا تَقِفُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وتَلْتَفِتُ عَن
يَمِينِكَ وعَنْ شِمَالِك أَنْ تَرَى ما يَسُرُّك.
ثُمَّ قالَ فِي الحديثِ: ( وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ
تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ) ، أَيْ: إذا نَظَرَ أَمَامَه لَا يَرَى إلَّا
النارَ!. أَتَدْرُونَ لِماذا؟
لِأَنَّ
الجَنَّةَ لَا تُوصَلُ إلا بَعْدَ تَجاوُزِ النارِ!!!
وتَجاوُزُ النارِ لَا يَحْصُلُ بَعْد
رَحْمَةِ اللهِ إلا بالتَّقْوى، فإِنَّ اللهَ الذي لا يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيه،
حَكَمَ عَلَى أَنَّه لا بُدَّ مِن الْمُرورِ عَلَى الصِّراطِ الْمَمْدُود عَلَى
مَتْنِ جَهَنَّم، قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) حيثُ يَـمرُّ الْمُؤمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ،
عَلَى الصَّراطِ أَمراً مَـحْتُوماً لابدَّ مِن وُقُوعِهِ لا مَـحَالةَ وَلا نجاةَ
بَعدَ رَحمِةِ اللهِ إِلا لِمَن بَذَلَ أَسبَابَ الفوزِ برحمتِهِ، وَجعَلَ بَيْنَه
وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وُقَاية .
وَأمَّا
الكُفَّارُ فَإِنَّهم يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ
مُبَاشرةً وَلا يَـمُرُّونَ عَلَى الصَّرَاطِ.
وَلِذلكَ قال في الحديثِ: ( فاتَّقُوا النارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة ) ، وليس
الْمُرادُ هو الاكْتِفاءَ بِشِقِّ التَمْرَة، وإَّنَّما الْمُرادُ هُوَ بَذْلُ مَا
فِي وُسْعِكُم مِن أَجْلِ النجاةِ مِن النارِ، وَأَنْ لَا تَحْقِروا مِن الأعمالِ
شيئًا وَلَوْ كانَ يَسِيرًا. فَإِنَّ الذي يَخْشَى الغَرَقَ يَتَشَبَّثُ بِأَيِّ
شَيءٍ قَريبٍ مِنْه، وَلَو كانَ قَشَّةً، أَوْ عُودًا صَغِيرًا. وَلَا يَعْنِي ذلك
أَنَّه يَكْتَفِي بِهذا العُودِ، مَعَ وُجُودِ سَفينَةٍ أَوْ قارِبٍ صَغِير،
فَإِنَّه يَسْتَحيلُ أَنْ يَتْركَ القارِبَ ويَكْتَفِي بالقَشَّة. وَهَكذا أَنْتَ
أَيُّها الإنسانُ، لا يَجُوزُ لَكَ أن تَتْرُكَ ما أَوجَبَ اللهُ عَلَيكَ، والذي
أَعْظَمُهُ التَّوْحِيدُ الخالِصُ والإيمانُ بِاللهِ ورسولِهِ، وتَكْتَفِي
بِالصَّدَقَةِ مِن اليَسِيرِ، وإنَّمَا الْمُرادُ هُو الاجْتِهادُ وبَذْلُ
الوُسْعِ في كُلِّ ما يُقَرِّبُ إلى اللهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ تَجِدْ إلَّا
الشَّيءَ اليَسِيرَ فَإِنَّه يَنْفَعُكَ عِنْدَ اللهِ، الذي يَغْفِرُ السيِّئَاتِ
ويَقْبَلُ القَلِيلَ مِن الحَسَنات.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عبادَ اللهِ:
إنَّ الغَفْلَةَ عَنْ لِقاءِ اللهِ، وَعَنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَه والتي اسْتَوْلَت
على قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَّا هِيَ التي تُعِيقُ العَبْدَ عَن السَّيْرِ إلَى اللهِ،
وَهِيَ السَّبَبُ فِي التَّفْرِيطِ وَالوُقُوعِ فِي الْمَعاصِي، ألَا تَرَوْنَ
أَنَّ اللهَ تَعالَى رَبَطَ ذلك بِتَذَكُّرِ لِقاءِ اللهِ وتَذَكُّرِ اليَوْمِ
الآخِرِ؟ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعالَى أَنَّه لَا
يُحافِظُ عَلَى الصلاةِ إلَّا مَنْ تَذَكَّرَ لِقاءَ اللهِ، قالَ تَعالَى:
( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم
مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ). فَكُلُّ مَنْ
ثَقُلَتْ عَلَيْه الصلاةُ فَلْيَعْلَم أَنَّه في غَفْلَةٍ عَنْ لِقاءِ الله. وَقَالَ تعالَى في شَأْنِ التَمَسُّكِ بِهَدْيِ النبيِّ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ ). فَكُلُّ مَنْ قَصَّرَ فِي التَمَسُّكِ بالسُّنَّةِ
فَلْيَعْلَمْ أَنَّه فِي غَفْلَةٍ عَن لِقاءِ الله. وقال
صَلَّى اللهُ عليه وسلم فِي شَأْنِ حِفْظِ اللِّسانِ: ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا
أوْ لِيَصْمُت ). فَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا يُسْخِطُ اللهَ،
فَلْيَعْلَمْ أَنَّه في غَفْلَةٍ لِقاءِ اللهِ.
مِمَّا
يَدُلُّ على أَنَّ العبدَ يَستَحِيُل أَنْ يُقْبِلَ على اللهِ كَما يَنْبَغِي
ويَنْكَفَّ عن مَعْصِيةِ اللهِ إلَّا إذا تَذَكَّرَ عَظَمَة اللهِ ولِقاءَه،
والوُقُوفَ بين يَدَيه.
اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ
مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ
خَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ
أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ،
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ
لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ الْمُسلِمِين، اللهُمَّ
ارفعِ البلاءَ عن الْمستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهُمَّ احِقن دماءَ
الْمُسلِمِين، اللهُمَّ انصرْ عبادَك الْمُؤمنين في كلِّ مكانٍ يا ربَّ
العَالَمِين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كيدِ الكائدينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ
وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن
أَنصَارِ دِينِك، وَارْزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119