الخازن الأمين
الحمد لله العزيز الغفور ، والعليم الصبور ، والسميع الشكور ، } يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ { ، } وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ، وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ، وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ، رَبِّ الْعَالَمِينَ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ، } هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، } هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { . صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم يبعثون .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته - سبحانه - لعباده ، وخير زاد يتزود به العبد ، في حياته لمعاده ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ، أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، والقائل أيضا : } وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى { فلنتق الله أحبتي في الله - جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
في حديث رواه أبو داود وصححه الألباني - رحمه الله - ، عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (( إِنَّ الْخَازِنَ الْأَمِينَ ، الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا ، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ ، حَتَّى يَدْفَعَهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ ، أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ )) ، وفي رواية في صحيح البخاري : (( هُوَ أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ )) .
ففي هذا الحديث - أيها الأخوة - يبين لنا النبي r ، الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، لمن جعله ولي الأمر ، مسئولا عن الأموال التي تخص المسلمين ، ويكون أمينا مراقبا لله U ، في حفظها وصيانتها ، وإعطائها لمن أمر بدفعها له ، فالخازن كما ذكر شراح الحديث : هو الذي يكون قيماً على الشيء ، ويكون مؤتمناً على حفظه ، سواء كان الخازن مملوكاً ، أو كان مستأجراً ، والقيام عليه ، والإدخال فيه ، والإخراج منه ، فيكون مسئولاً عن المال الذي يخزن .
فعلى هذا التعريف - أيها الأخوة - يدخل في الخازن ، في وقتنا هذا ، كل مسئول عن منفعة لمسلم من المسلمين ، ابتداء بما يعرف بأمين الصندوق ، وانتهاء برأس الهرم معالي الوزير !
فهذا الخازن ، عندما يكون أمينا ، أي ليس خائنا ، لأن الأمانة ضدها الخيانة ، فهو إن كان أمينا ، محافظا على ما وضع تحت يده ، يتصرف به كما يريد ولي أمره ، ويعطي ما أمر به كاملا موفرا ، أي لا ينقص منه شيئا ، ولا يكون كارها أو حاسدا أو شحيحا ، إنما كما قال r : (( طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ )) أي يعطيه صاحبه ، وكأنه يعطي نفسه ، أو أحد أبنائه ، أي يصل كما أمر ولي الأمر ، لا يكون هذا الخازن ، عقبة كؤدا ، بين المواطن وولي أمره ، إنما هو أمينا مخلصا ، ذا نفس طيبة ، أهلا لثقة ولي الأمر ، وثقة كل مسلم ينتظر حقه وعطاءه . فإذا كان كذلك ، فإنه يكون (( أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ )) ، أو : (( هُوَ أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ )) فأجره لأمانته ، وعدم خيانته ، وعنايته بمسؤوليته ، وتأديته لواجبه ، لا يقل عن أجر من وكل إليه ، هذه المسؤولية ، وثوابه كثواب من أمره وكلفه بتلك المهمة .
أيها الأخوة المؤمنون :
فأمانة الخازن ، واجب شرعي ، ومطلب اجتماعي ، ولن تصل للناس حقوقهم ، ولن يحصلوا على مستحقاتهم ، إلا بهذا الواجب ، وبذلك المطلب ، ولذلك قال الله U : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا { وبعد هذه الآية مباشرة - ولعل ذلك يبين أهمية الأمانة ، ووجوب وجودها في الخازن - الذي يكلفه ولي الأمر ، بمستحقات المسلمين ، ويأمره بعدم التقصير بما يضمن عيشهم الكريم - قال U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ { فالخازن عندما يقوم بواجبه ، وينفذ أمر ولي أمره ، بإعطاء الناس حقوقهم ، هو في الحقيقة مطيعا لله ولرسوله وولي أمره ، وكما قال تعالى : } وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ { .
أيها الأخوة :
إن الخازن الأمين ، هو ما يحتاجه المسلمون في مجتمعاتهم ، وخاصة نحن في هذه البلاد ، التي أنعم الله U عليها ، بخيراتها الكثيرة ، وميزها عن غيرها بكنوزها الوفيرة ، وولاة أمرها ، الحريصين على راحة وطمأنينة ورغد عيش من ولاهم الله أمرهم ، بل - أيها الأخوة - الخازن الأمين ، هو ما يحتاجه ولاة أمر المسلمين ، ليكون وسيلة صالحة نافعة ، بينهم وبين من يسألهم الله U عنهم يوم القيامة ، فبوجوده تصل إلى الناس أعطياتهم ، وينال الناس عن طريقه حقوقهم ، فتكون المحبة بين المسلم وولي أمره ، ولا تنعدم الثقة بين المحكوم وحاكمه ، فتكون النتيجة الخيرية التي أشار إليها النبي r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : (( خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ : الذين تُحبُّونَهُمْ ويُحبونَكُمْ ، وَتُصَلُّونَ عليهم ، ويُصلُّونَ عليكم )) .
أسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ونحن نتحدث ، من خلال هذا الحديث ، عن الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، الذي جعله الله U ، للخازن الأمين ، يجدر بنا أن نشير ، إلى الذنب الكبير ، والعقاب الأليم ، للخازن غير الأمين ، الخائن الذي يستغل ما استحفظ عليه ، لمصالحه الشخصية ، أو منافعه الذاتية ، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني ، يقول النبي r : (( مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِى أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ ، إِلاَّ أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ ، فَكَّهُ بِرُّهُ ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ )) .
والخازن - أيها الأخوة - إن لم يكن أمينا ، فإنه سوف يقع بشرور خطيرة ، من أخطرها الغلول ، فقد تسول له نفسه الأمارة بالسوء ، فيستغل مسؤوليته ، ويأخذ شيئا ليس من حقه أن يأخذه ، فهذا هو الغلول الذي يدخل صاحبه النار - والعياذ بالله - ففي الحديث الذي ذكره ابن حبان ، وصححه الألباني ، يقول ابْنُ عَبَّاسٍ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا قُتِلَ نَفَرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r ، قَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى ذَكَرُوا رَجُلًا ، فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (( كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا ، أَوْ بُرْدَةٍ غَلَّهَا )) فإن كان - أيها الأخوة - من غل عباءة أو بالردة ، لا يكون شهيدا وهو يقاتل مع رسول الله r ، ويكون في النار كما جاء في هذا الحديث ، فكيف بغيره - نسأل الله السلامة والعافية - .
ألا فلنتق الله - أحبتي في الله - ولنحرص على مايكون سببا لرفع درجاتنا ، وإثقال موازيننا يوم القيامة ، ولنحذر مزالق النفس والشيطان .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر ، برحمتك يا أرحم الراحمين .اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، وعجل بزوال الطغاة المجرمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|