للمديون للأب الحنون
الحمد لله السميع العليم ، والعلي العظيم ، القائل في كتابه : } نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، } اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه ، إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
يقول U في كتابه ، آمرا لعباده : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين ، الذين } لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
من المخالفات الخطيرة ، والذنوب الكبيرة ، التي يقع بها بعض الناس ، ويبتلى بها بعض ضعاف الإيمان والدين ، بل والإحساس والعقل : الاستهانة بالأب ، وخاصة عندما يكون كبيرا في السن ، متقدما في العمر ، فكثير هم ـ أيها الأخوة ـ هداهم الله ـ الذين تغرهم صحة أجسامهم ، وتخدعهم شهاداتهم وأموالهم ، وتؤثر بهم مستجدات حياتهم ، فيقعون بهذه الجريمة النكراء ، فلا يعتبرون آباءهم ، ولا يعدونهم إلا كقطع أثاث في بيوتهم ، والله ـ أيها الأخوة ـ أن أحدهم ـ وقد مات رحمه الله ـ ما علم في زواج ابنته ، إلا عند كتابة عقد نكاحها .
وأما الشباب وهذه الظاهرة ، فحدث ولا حرج ، فعدم اعتبار الأب وتهميشه ، صار مبدأ من أهم مبادئهم ، وصفة من أبرز صفاتهم ، فتجد أكثرهم ، لا يعترفون بآبائهم إلا عندما يحتاجون إلى شيء من المال .
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن هذه الظاهرة الخطيرة ، فيها دليل واضح ، وبرهان بين ، على بعد من بلي بها عن دينه ، وقلة خوفه من ربه ، وإنكاره وجحوده ، لواجب أمر الله U به وحث عليه . بل ـ ايها الأخوة ـ فيه دليل على مخالفة أمر الله U وارتكاب نهيه ، حيث نهى عن العقوق ، وأمر بالبر والإحسان ، يقول U : } وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا { فالله U أمر بحقه ، وهو عبادته وتوحيده ، وأتبع ذلك حق الوالدين ، وهو الإحسان بأشكاله وأنواعه ، } إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ { لا حظ ـ أخي الكريم ـ كلمة عندك ، فقد كنت عندهما ، وهم اليوم عندك ، } فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا { .
فالاستهانة بالأب ، وعدم اعتباره وتهميشه ـ أيها الأخوة ـ جريمة خطيرة ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، وقد تؤدي إلى مرضه ، بل قد تكون سببا في تعاسته وشقائه ، فيكون الموت أغلى غائب ينتظره ، وخاصة عندما يقارن بين ماضيه ، الذي كان يأمر وينهى ، وينصح ويوجه ، ويعاتب ويؤدب ، وبين حاضره السيئ ، حيث لا كلمة له ، ولا رأي ولا قدرة ، إنما هو كالضيف الثقيل ، ينتظر من حوله رحيله ، بل ويتمنى بعضهم زواله ، ليكون حرا طليقا من بعده .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن تهميش الأب ، وعدم اعتباره ، ماهو إلا من باب عدم تقديره ، وتجاهل قيمته ، والاستهانة بمكانته ، ولا شك أن هذا من العقوق الذي نهى الله U عنه ، وحذر منه ، إن كان ـ أيها الأخوة ـ أف عندما تقال للوالد ، يعتبرها الدين كبيرة من كبائر الذنوب ، وهي حركة قد لا ينتبه لها الوالد ، عندما يقوم بها أحد أبنائه ، فكيف به ، وهو يرى أبناءه ، وهم لا يرونه شيئا بينهم ، ولا قيمة لكلمته أو رأيه عندهم .
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن العقوق كبيرة من كبائر الذنوب ، ففي الحديث الصحيح ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ r ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الكَبَائِرُ ؟ قَالَ : (( الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ )) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : (( ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ )) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : (( اليَمِينُ الغَمُوسُ )) يقول عبدالله بن عمرو ؛ قُلْتُ : وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسُ ؟ قَالَ : (( الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ )) .فليحذر الأبناء ، عقوق آبائهم ، فقد يكون ذلك سببا لتعاستهم وشقائهم في الدنيا قبل الآخرة ، ففي الحديث صحيح الإسناد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( كُلُّ الذُّنُوبِ تُؤَخَّرُ إِلَى مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ )) ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
مما لاشك فيه ، أن ما يفعله الأبناء في آبائهم ، ماهو إلا دين في أعناقهم ، وسوف يجدون سداده من قبل أبنائهم ، والجزاء من جنس العمل .
يحكى عن الأصمعي ، أنه قال : حدثني رجل من الأعراب قال : خرجت من الحي ، أطلب أعق الناس وأبر الناس ، فكنت أطوف بالأحياء ، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل ، يستقي بدلو لا تطيقه الإبل ، في الهاجرة والحر الشديد ، وخلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوّى ، يضربه به ، قد شقّ ظهره بذلك الحبل . فقلت : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدّ هذا الحبل حتى تضربه ؟ قال : إنه مع هذا أبي . قلت : فلا جزاك الله خيراً ! قال : اسكت ، فهكذا كان يصنع هو بأبيه ، وكذا كان يصنع أبيه بجده . فقلت : هذا أعق الناس . ثم جلت أيضاً ، حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زبيل ، فيه شيخ كأنه فرخ ، فيضعه بين يديه في كل ساعة ، فيزقّه كما يزقّ الفرخ ـ أي يطعمه ـ فقلت له : ما هذا ؟ فقال : أبي وقد خرف ، فأنا أكفله . قلت : فهذا أبر العرب . فرجعت وقد رأيت أعقهم وأبرهم .
ألا فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ لا سيما فيما يخص آباءنا ، فسوف يأتي يوم فلا نجدهم بيننا .
أسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر ، برحمتك يا أرحم الراحمين .اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، وعجل بزوال الطغاة المجرمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتعم به وببركته الحاضر والباد ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |