الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحمن الرحيم ، الذي وسع كل شيء برحمته ، المنعم المتفضل الكريم ، الذي عم كل حي بنعمته ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته ، سبحانه يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من بريته ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تمسك بسنته ، وسار على طريقته ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لخلقه ، الأولين والآخرين ، فهو القائل سبحانه في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
من أسماء الله تعالى : الرحمن الرحيم ، كما في قوله U : } قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى { ، وفي قوله تبارك وتعالى : } نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { فالرحمن والرحيم ـ أيها الأخوة ـ اسمان من أسماء الله تعالى ، أثبتهما لنفسه في كتابه ، وأثبتهما له U نبيه محمد r ، ففي الحديث الذي رواه الترمذي ، وصححه الألباني ، يقول r : (( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِى فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ )) وفي صحيح البخاري ـ رحمه الله ـ أن أبا بكر الصديق t ، قال للنبي r عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي . قَالَ r : (( قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) .
فالرحمن والرحيم ، اسمان من أسماء الله تعالى ، فهو سبحانه ؛ رحمن بجميع خلقه ، رحيم بأهل طاعته ، وسعت رحمته كل شيء ، كما قال تبارك وتعالى : } وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ { ، وفي الحديث الصحيح يقول r : (( إِنَّ للهِ مِائَةَ رَحمةٍ يَتراحَمُ بِهَا الخَلْقُ بَينهمْ ، وتِسعٌ وتِسعُونَ لِيومِ الْقِيَامَةِ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
في الحديث الصحيح ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t ، قَالَ : قَدِمَ النَّبِيَّ r سَبْيٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبُ ثَدْيُهَا تَسْعَى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا ، وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ r : (( أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ )) قُلْنَا : لا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ r : (( اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بَوَلَدِهَا )) .
فربنا ـ أيها الأخوة ـ رحمن رحيم ، رحمته وسعت كل شيء ، وأرحم بأحدنا من الأم بولدها ، ولكن أسعد الناس برحمته U ، هم العاملون بشرعه ، المتبعون لنبيه محمد r ، يقول سبحانه : } وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ { ويقول U : } وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن خوفنا من الله U ، ومراقبته وخشيته ، وعبادته وكأننا نراه ، هي أقرب طريق لرحمته ، كما قال سبحانه : } إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ { فإحسانك ـ أخي المسلم ـ في عبادتك ، وتأديتها كاملة متقنة ، ومراقبتك لله ، بأن تعبده وكأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، يجعلك بإذن الله تعالى من عباده المحسنين ، التي رحمته قريبة منهم .
وكذلك أيضا ، إحسانك إلى خلقه ، بل وإلى مخلوقاته ، يقربك من رحمته U ، ففي الحديث الصحيح ، يقول الرسول r : (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ )) فنحن ـ أيها الأخوة ـ بحاجة لرحمة الله ، فلنكن رحماء بيننا ، رحماء بالمساكين والفقراء ، رحماء بالمحتاجين والضعفاء ، ففي الحديث الصحيح ، يقول r : (( مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ )) . فلنحذر ـ ايها الأخوة ـ أن نكون من الأشقياء الذين نزعت الرحمة من قلوبهم ، كما جاء عن النبي r في الحديث الحسن : (( لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ )) .
فلنحسن إلى الناس ـ أيها الأخوة ـ رحمة بهم ، حتى ولو كان بالكلمة الطيبة ، أو الشفاعة الحسنة ، أو قضاء حاجة من الحاجات ، ففي الحديث الذي رواه مسلم ، عن أَبِى هُرَيْرَةَ t : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَبَّلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا قَطُّ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ : (( إِنَّ مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ )) .
وفي حديث آخر ـ ايضا رواه مسلم في صحيحه ـ عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُول اللَّهِ r فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَقَالُوا لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ ! فَقَالَ رَسُول اللَّهِ r : (( وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ )) .
فإن كانت قبلتك لصبيك ، يعتبرها الشرع دليلا على رحمتك ، فيرحمك الله بسببها ، فكيف ـ بالله عليك أخي ، بتنفيس كربة مكروب ، أو إزالة هم مهموم ، أو كشف غم مغموم ! لا شك أخي أن الجزاء من جنس العمل .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { ، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ونحن نتحدث عن رحمة الله U ، يجدر بنا أن نحذر أسباب الطرد والإبعاد منها ، فكل ملعون مطرود من رحمة الله ، يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره ، عند قوله تعالى : } مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ { أي: أبعده عن رحمته .
فالظالم ملعون ، كما قال تبارك وتعالى : } أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ { والمفسدون في الأرض ، القاطعون لأرحامهم ملعونون ، كما قال تعالى : } فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ { والمتشبهون من الرجال والنساء ببعضهم ، والواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، والنامصة والمتنمصة ، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله ، والذين يسمون البهائم في وجوهها ، ومن مثل بالحيوان ، ومن تخلى في طريق الناس أو ظلهم ، والمتعاونون من أجل الرشوة ، أو شرب الخمر ، وأكلة الربا ومن كان سببا في إتمام صفقته ، وزائرات القبور ، والكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، اللاتي رؤسهن كأسنمة البخت المائلة ، والمخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء ، والنائحة ، والمحلل والمحلل له ، وشاهد الزور ، ومن أم قوما وهم له كارهون ، ومن لعن والديه ومن ذبح لغير الله ومن آوى محدثا ومن غير منار الأرض ، ومن أفسد امرأة على زوجها ، ومن فرق بين الوالد وولده ، أو بين الأخ أخيه ، ومن تسبب في لعن والديه ، ومن لعن من لا يستحق اللعن .
هؤلاء ـ أيها الأخوة ـ ملعونون على لسان رسول الله r ، بأسباب هذه الأفعال المشينة ، فلنحذر هذه الأسباب التي تكون سببا في الطرد من رحمة الله سبحانه .
اسأل الله أن لا يحرمنا رحمته ، وأن يمن علينا بإحسانه وفضله ، إنه سميع مجيب .
} رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا { برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، واجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا مجللا نافعا غير ضار ، عاجلا غير آجل ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|