أعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ
الحمد لله ، مظهر الحق ومبديه ، ومنجز الوعد وموفيه ، ومسعد العبد ومشقيه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وعد من أطاعه بنعيم الجنان ، وتوعد من جحده وعصاه ، بجحيم النيران ، } هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لخلقه ، الأولين والآخرين ، فهو القائل سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه : أن النبي r ، آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الفارسي وأَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنهما ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً ـ أي عليها ملابس رثة ، خالية من الزينة ـ فَقَالَ لها سلمان : مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ : إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا . قَالَ : فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ سلمان t : مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ : فَأَكَلَ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : نَمْ ، فَنَامَ ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ ، فَقَالَ لَهُ : نَمْ ، فَنَامَ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ : قُمِ الآنَ ، فَقَامَا فَصَلَّيَا ، فَقَالَ سلمان لأخيه أبي الدرداء : إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَيَا النَّبِيَّ r ـ سلمان وأبو الدرداء ـ فَذَكَرَا ذَلِكَ له ، فَقَالَ r : (( صَدَقَ سَلْمَانُ )) .
أيها الأخوة :
من خلال هذه الحادثة ، يتبين لنا : أهمية التوازن في الحياة ، وضرورة التوفيق بين الحقوق والواجبات ، وأن يكون المسلم متزنا في تعامله ، لا يهتم بأمر يكون اهتمامه به على حساب غيره ، تأملوا ـ أيها الأخوة ـ قول سلمان t ، والذي أقره النبي r ، وصدق عليه : لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
فالتوفيق بين الحقوق والواجبات ـ أيها الأخوة ـ مطلب شرعي ، وواجب إسلامي . يجب على المسلم ، أن يؤدي ما يطلب منه ، وأن يقوم بما يجب عليه ، على حسب مكانته ووضعه وحالته ، فكونه عبدا لله U ، عليه أن يقوم بواجبات عبوديته لخالقه ورازقه ، وكونه ربا لأسرة ، فعليه أن يقوم بواجبات زوجته وأولاده ، وعندما يحل عليه ضيف ، يجب عليه أن يقوم بواجبه لضيافته ، ومع ذلك عليه أن لا يهمل نفسه ، ولا يرهقها بترك ما يجب عليه لها ، فلنفسه عليه حقا ، ولربه عليه حقا ، ولضيفه عليه حقا ، ولأهله عليه حقا ، فعليه أن يعطي كل ذي حق حقه .
أيها الأخوة :
فإعطاء كل ذي حق حقه ، هو مبدأ الناجحين ، ومنهج الناجين السالمين من تبعات الإهمال والتقصير ، وما فشل أكثر الناس في الحياة ، بتركهم للواجبات ، وتقصيرهم في تأدية الحقوق والمهمات ، إلا بسبب مخالفة هذا المبدأ المهم العظيم وعدم العمل بهذا التوجيه النبوي الكريم .
فبعض الناس ـ أيها الأخوة ـ على سبيل المثال : تجده باستراحته ، متميزا بين أصحابه ، لو تأخر لحظات عنهم لافتقدوه ، لا تحلوا جلستهم ولا سهرتهم إلا بوجوده ، ولكنه فاشل مع أهله ـ بمعنى الكلمة ـ بل وفاشل حتى في عمله ، لأن ارتباطه مع أصحابه ، وتقضية وقته بالسهر واللعب والضحك معهم ، على حساب أهله وعمله ، فالأهل حقهم منه التقصير والاهمال ، والبعد والهجر ، والعمل حقه منه الكسل والنوم ، وتعطيل مصالح المسلمين . فهذا هو الفشل بعينه .
وليس ببعيد من صاحبنا هذا ، من يقضي وقته ، ويبذل جهده ، من أجل جمع المال ، وزيادة الأرصدة في البنوك ، فهو جيفة بالليل حمار في النهار ، كما قال النبي r في الحديث الذي صححه الألباني : (( إن الله يبغض كل جَعظريٍّ جَوَّاظ ، سَخَّاب بالأسواق ، جيفة بالليل ، حمار بالنهار ، عالم بأمر الدنيا ، جاهل بأمر الآخرة )) ، فهمه وشغله الشاغل : جمع المال ، ولكنه بخيل كل البخل على أسرته ، مهمل لصحته ، قاطع لرحمه ، تارك لواجباته ، قد يمضي عليه الاسبوع والأسبوعان ، وهو لم يقم بزيارة أقرب الناس إليه : والده ووالدته ، وتجده يعتذر بكثرة المشاغل ، ويتحجج بقلة الفراغ ، وعدم كفاية الوقت ، وهذا الفشل بعينه !
أيها الأخوة :
ماذا كان يفعل أبو الدرداء t ؟ كان يصوم النهار ويقوم الليل ، ولكن لم يقر النبي r فعله ذلك ، لأنه على حساب أهله ، فكيف بمن يهمل واجباته ، ولا يؤدي حقوقه ، من أجل شهواته وملذاته ورغباته !!!!
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنعطي كل ذي حق حقه .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن تنظيم الوقت ، وترتيب الأولويات والمهمات ، هو المعين الأول ، بعد توفيق الله تعالى ، على إعطاء كل ذي حق حقه ، ولذلك الوقت هو الحياة ، فعلى المسلم أن ينظِّم وقته تنظيمًا مُحكمًا، بحيث يرتِّب بين الواجبات والأعمال المختلفة ، سواء كانت دينيَّة أو دنيويَّة ، على أنْ لا يطغى بعضها على بعض، ويقدِّم الأهمَّ على المهمِّ ، وكما جاء في هذه الحادثة ، التي ينبغي أن تدرس لكل فوضوي في حياته ، مهمل لحقوقه وواجباته .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، واجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل متقبل مبرور وعيب مستور يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين ، اللهم وفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك ، وارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه ، واصرف عنهم بطانة السوء يا رب العالمين .
اللهم وفق ولاة أمرنا ، واحفظ علماءنا ، اللهم من أرادهم وأراد بلادنا بسوء اللهم اشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره تدميراً له يا رب العالمين .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها على هذا الرابط:
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|