أُولِوا الْأَلْبَابِ
الحمد لله العزيز الوهاب ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ { أنزل على عبده الكتاب ، وقال U من قائل : } كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أزكى الناس سيرة ، وأطهرهم سريرة ، وخير من دعا إلى الله U على بصيرة ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن اهتدى بهديه ، واستن بسنته ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، فهو القائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ذكر أولي الألباب ، تكرر في كتاب الله U ، وخاصة في مجال الذكرى والتذكير ، كما في قوله تعالى : } وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ { ، وقوله سبحانه : } وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ { ، وقوله U من قائل : } هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ { فمن هم أولوا الألباب ، وما هي صفاتهم ؟
أيها الأخوة :
أولوا الألباب ، هم الذين أثنى الله U عليهم في كتابه ، وامتدحهم من بين عباده ، لرجاحة عقولهم ، وسلامة افكارهم ، واستقامة مناهجهم . بل هم الذين أعلى الله U مكانتهم ، ورفع درجتهم في الدنيا والآخرة ، وهل هناك أعظم وأفضل وأحسن من الجنة ، التي وعدهم الله U بها ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، كما قال تعالى : } أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ { .
أيها الأخوة :
ماهي صفات أولي الألباب ، هؤلاء الذين لهم عقبى الدار ، الذين لهم جنات عدن ؟ الذين أثنى الله U عليهم بكتابه ، وامتدحهم من بين عباده ؟
اسمعوا صفاتهم ـ أيها الأخوة ـ من الخبير العليم ، يقول U : } إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ { .
فأولوا الألباب ، } يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ { أي يوفون بعهد الله U بالقيام بحقوقه كاملة ، ويستقيمون على دينه قولاً وعملاً وعقيدة ، ولا ينقضون مواثيقهم وعهودهم ، يتعاملون مع الله بصدق وإخلاص ، ومع بعضهم بنصح ووفاء ، ليسوا كحال المنافقين ، الذين يظهرون الاستقامة والصلاح ، ويضمرون الانحراف والفساد ، السفهاء كما وصفهم الله U بقوله : } وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ { فالذي لا يصدق مع الله ، ولا يصدق مع الناس ، ليس من أولي الألباب ، إنما هو من السفهاء ، من المنافقين ، كما أخبر النبي r في الحديث الصحيح : (( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْـلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْـلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْـلَفَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ )) .
أيها الأخوة :
وكذلك من صفات أولي الألباب ، أصحاب العقول الراجحة ، } يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ { أي يستمرون على عبادة الله ، ويدومون على طاعته ، ويصلون ما بينهم وبين إخوانهم ، وخاصة أقاربهم وأرحامهم ، يقول الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : يصلون ما أمر الله به أن يوصل من الاستقامة على أمر الله U والإخلاص لله سبحانه وتعالى ، واتباع سنة الرسول r ، وهكذا يتبعون الإيمان بالعمل ، ومن ذلك : بر الوالدين ، وصلة الرحم ، ويخشون ربهم ؛ الخشية التي تعينهم على طاعة الله ، وتمنعهم من معاصي الله ، يخشونه سبحانه خشية حقيقية ، لا مجرد دعوى ، خشية تؤثر في قلوبهم ، وتجعلها خاشعة خاضعة له سبحانه ، معظمة لحرماته ، تاركة نواهيه ، ممتثلة أوامره . إلى أن قال ـ رحمه الله ـ : } وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ { وهذا من كمال الخشية ، خوفهم من سوء الحساب ، ولهذا أعدوا العدة ، واستقاموا على الطريق ، خوفًا من سوء الحساب يوم القيامة .
أيها الأخوة :
فالعاقل بميزان الله ، هو الصادق مع الله U ، الصادق مع نفسه ، والصادق مع غيره ، المستقيم على أمر الله ونهيه ، القائم بما أوجب الله عليه ، المستعد لآخرته بأعماله الصالحة ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحذر أن نكون من الذين يضحكون على أنفسهم ، فيعتقدون أنهم أصحاب عقول راجحة ، وأفهام صائبة وهم ـ نسأل الله العافية ـ على غير ذلك .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الصفات المهمة ، لأولي الألباب ، التحلي بالصبر بأنواعه وأشكاله ، يصبرون على طاعة الله ، ويصبرون عن ما حرم الله ، وأيضا يصبرون على أقدار الله ـ جل جلاله ـ وصبرهم ليس رياء ، إنما لوجه الله U ، كما قال تبارك وتعالى : } وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ { ، } وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ { أي قاموا بها على الوجه المطلوب ، وأدوها كما أمر الله U ، فلرجاحة عقولهم ، وسلامة أفكارهم ، لم يفرطوا في هذه الشعيرة العظيمة ، التي هي عمود الإسلام ، ليسوا كالمنافقين ، الذين وصفهم الله U بالسفهاء ، والذي من أبرز صفاتهم عدم المبالاة بالصلاة ، كما قال تبارك وتعالى : } إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا { .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن صفات أولي الألباب ، ما جاء في قوله تعالى : } وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ { أي ينفقون في مرضاته وفي الإحسان لعباده سرًّا وعلانية ، شيء يراه الناس وشيء لا يراه الناس ، يبتغون فضل الله ويبتغون رحمته وإحسانه من الزكاة والصدقة ، وينفقون في وجوه الخير مما أعطاهم الله سبحانه ، } وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ{ يدرءون بالحسنات السيئات لكمال صبرهم وتحملهم وكظمهم لغيظهم ، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله : هكذا العلماء بالله ، وهكذا الصلحاء من عباده ، قال الله تعالى : } أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ { لهم العاقبة الحميدة ، فسرها سبحانه بقوله : } جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ { .
أيها الأخوة :
هذه صفات أولي الألباب ، التي ذكرها الله U في كتابه ، فلنحرص على هذه الصفات العظيمة ، ولنكن من أولي الألباب ، الذين يتقون الله U ، ويستفيدون من الذكرى والتذكير ، ولهم البشرى من الله U كما قال تعالى : } فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ { .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
|