الْمَقامُ
الْمَحْمُودُ
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وقُومُوا بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ
اللهُ، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما افتُرِضَ
عَلَيْكُمْ، مَعْرِفَةَ حَقِّ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عَليهِ وسلم. وَمِمَّا
ورَدَ في هذا البابِ العظيمِ، مَعْرِفَةُ خَصائِصِ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم،
فَإِنَّها عَظيمَةٌ وكَثِيرَةٌ. مِنْها: ما
يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِن الأنبياءِ. وَمِنْها:
ما يَخْتَصُّ بِهِ عن سائِرِ أُمَّتِهِ.
وَمِنْ هذه الخصائِصِ: الْمَقامُ الْمَحْمُودُ
الذي ذَكَرَه اللهُ تعالى فِي كِتابِهِ، وثَبَتَ في سُنَّةِ رسولِهِ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِن الصحابَةِ
رضيَ اللهُ عنهم.
وذلك
عِنْدَمَا قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لأصحابِه: " أَنَا سَيِّدُ الناسِ يَوْمَ القِيامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ
بِمَ ذاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ ". وذَكَرَ
دُنُوَّ الشمسِ، وما يَبْلُغُ الناسَ مِن الغَمِّ والكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ،
وما لا يَحْتَمِلُونَ. فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه
السَّلامُ: فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنا
إلى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى ما نَحْنُ فِيه، فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ
غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَه، وَلَنْ يَغْضَبْ
بَعْدَهُ مِثْلَه، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غَيْرِي،
اذْهَبُوا إلى إبراهيمَ. فَيَأْتُون
إبراهيمَ فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي
نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غَيْرِي، اذهَبُوا
إلى عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إلى غَيْرِي، اذهَبُوا
إلى محمدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم. فَيَأْتُونَ
محمدًا صلى اللهُ عَلَيْه وسلم
فَيَقُولُونَ: يا محمدُ، أَنْتَ رسولُ اللهِ، وخاتَمُ الأنبياءِ، وَقَدْ غَفَرَ
اللهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلى ربِّكَ،
ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيه؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ
ساجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِنْ مَحامِدِهِ
وَحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ
يُقالُ: يا محمدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، - وَهذا هُوَ الْمَقامُ الْمَحْمُودُ - فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يا رَبِّ، أُمَّتِي
يا رَبِّ، فَيُقالُ: يا محمد، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسابَ عَلَيْهِمْ
مِن البابِ الأَيْمَنِ مِن أَبْوابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكاءُ الناسِ فِيمَا
سِوَى ذلكَ مِنْ الأبْوابِ، ثُمَّ قال: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ ما بَيْنَ
المِصْراعَيْنِ مِن مَصارِيعِ الجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وحِمْيَر، أَوْ:
كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وبُصْرَى ).
فَيِا لَهُ مِنْ مَوْقِفٍ عَظِيمٍ، فِي يَوْمٍ عَظِيمٍ،
تَرَى فِيهِ أَشْرَفَ خَلْقِ اللهِ، وَأَعْلَمَ خَلْقِ اللهِ بِاللهِ، وَأَتْقَى
خَلْقِ اللهِ للهِ، وَهُمْ الأَنْبِياءُ وَأُولُو العَزْمِ مِن الرُّسُلِ، تَرَى
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي. ولا يَعْنِي ذَلِكَ
أَنَّ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ لا يَعْلَمُونَ مَصِيرَهُمْ؟! بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُم
مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَلَكِنَّ هَوْلَ ذلكَ اليَوْمِ، وَشِدَّةَ خَوْفِهِمْ مِن
اللهِ، حَمَلَهُمْ عَلَى ذلكَ، فَإِنَّ مَنْ كانَ بِاللهِ أَعْرَفُ، كانَ مِنْهُ
أَخْوَفُ. فَيا أَيُّها المُسْلِمُ: اتَّقِ اللهَ وَتَذَكَّرْ ذلكَ جَيِّدًا. واعْلَمْ
أَنَّه لَيْسَ لَكَ بَعْدَ رَحْمَةِ اللهِ ما تَنْجُو بِهِ إِلا ما قَدَّمْتَ مِن
الإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ، فَلَا يَنْفَعُ الحَسَبُ ولَا النَّسَبُ ولا المالُ
ولا الجَاهُ والمَنْصِبُ، ولا رَحْمَةُ الأُمِّ، ولا عَطْفُ الأَبِ وَحِرْصِهِ.
كَمَا قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم لِبِنْتِهِ فاطمةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْها: "اشْتَرِي نَفْسَكِ، لا أُغْنِي عَنْكِ
مِن اللهِ شَيْئًا ". فَدَلَّ هذا الحديثُ: عَلَى تَخْصِيصِ رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم بِهذا الْمَقامِ العَظِيمِ، الذي يَحْمَدُهُ
فِيهِ الخلائِقُ كُلُّهُم، وبِالشفاعةِ العُظْمَى التي لا يُشارِكُهُ فِيها أَحَدٌ،
لِأَنَّه سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْه.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم. الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى
إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله
إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى
اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ الله: وَيَدُلُّ
الحديثُ الذي سَمِعْتُمْ: عَلَى أَنَّه لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ
يَشْفَعَ لِأَحَدٍ يَوْمَ القِيامَةِ، مَهْمَا بَلَغَتْ مَنْزِلَتُه، لا مَلَكٌ
مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، حَتى يَأْذَنَ اللهُ لَه، لِمَا سَمِعْتُمْ في
الحديثِ، وَلِقَوْلِهِ تَعالى: (مَن ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ). وَهَذِهِ
الشَّفاعَةُ أيْضًا لا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ
الشُّرُوطُ التي أَعْظمُها: التوحيدُ وَتَرْكُ الشِّرْكِ بَعْدَ رِضا اللهِ عَن الْمَشْفُوعِ.
لِقَوْلِه تَعالَى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
ارْتَضَى). وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلام: (فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شاءَ اللهُ مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتِي
لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا). وَيَدُلُّ هذا
الحديثُ أَيْضًا: عَلَى فَضْلِ هذِه الأُمَّةِ، فَإِنَّها أَوَّلُ مَنْ
يَدْخُلِ الجنةَ مِنْ الأُمَمِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الجنةِ. وَهذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هذِه الأُمَّةِ، فَقَدْ
فَضَّلَها اللهُ بِتَفْضِيلِ نَبِيِّها صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْه.
فَاحْمَدِ اللهَ أَنَّكَ مُسْلِمٌ، واحْمَدِ اللهَ أَنَّكَ مِنْ أُمَّةِ محمدٍ صلى
اللهُ عليه وسلم. واعْلَمْ أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ رسولِ اللهِ صلى عليهِ وسلم
بِأُمَّتِهِ أَنَّه قال: ( كُلُّ نَبِيٍّ دَعَا
دَعْوَةً فَاسْتُجِيبَتْ، وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ
القِيامَةِ ).
فَنَسْأَلُ
اللهَ تَعالَى، أَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى الإسلامِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ
أَتْباعِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ ظاهِرًا وباطِنًا، وَأَنْ يَحْشُرَنا فِي
زُمْرَتِه. اللَّهُم آتِ نُفُوسَنَا تَقْواهَا، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ
زَكَّاها، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام
راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ
الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم احقن
دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من
المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان،
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين
وعدوان المعتدين، اللهم من أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره
واجعل تدبيره تدميرًا له يا سميع الدعاء، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم
بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة لهم يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة
وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم
واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من
الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ
وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|