الطُّمَأْنِينَةُ والسَّكِينَةُ وَراحَةُ البالِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وابْذُلُوا أَسْبابَ الفَوْزِ بِرَحْمَةِ اللهِ،
واعْلَمُوا أَنَّ العَبْدَ تَمُرُّ بِهِ أَحْيانًا سَاعَاتٌ حَرِجَةٌ، وَلَحَظَاتُ
قَلَقٍ واضْطِرابٍ، وَقَدْ يُصاحِبُها شَيْءٌ مِنْ الخَوْفِ أَوْ الهَمِّ
والحُزْنِ، فَيَحتاجُ إلى أنْ تُفَتَحَ لَه أَبْوابُ السَّكِينَةِ والطُمَأنِينَةِ،
وتَغْشاهُ الرَّحْمَةُ، كَيْ يَذُوقَ طَعْمَ الراحَةِ والسَّعادةِ، لِأَنَّ
النفْسَ تَحتاجُ دائمًا إلى مَا يُلَطِّفُ أَجْواءَها، لِتَصْفُوَ وتَرْتَقِيَ في
دَرَجاتِ الفَلاحِ وتَعْلُوَ.
ثم اعْلَمُوا
يا عِبادَ الله: أنَّ تَحْقِيقَ شَهادَةِ أنْ لا إلَه إلا الله، وأنَّ
مُحَمَّدًا رسولُ الله، قَولًا وعَمَلًا، والعِنايَةَ بالعَقِيدَةِ الصَّحيحةِ
التي بُعِثَ بها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، والعَمَلَ الصالحَ الذي هُوَ
مُقْتَضَى هذه العَقِيدةِ، أَعْظَمُ أسبابِ السعادةِ وطُمَأْنِينَةِ النَفْسِ
وراحةِ البالِ، والدافعُ القَوِيُّ إلى التَّغَلُّبِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخاوُفِ
والقَلَقِ والهُمُومِ. والإنسانُ بِدُونِ ذلك، يَكُونُ فَرِيسَةً لِلْأَوهامِ
والشُّكُوكِ التي رُبَّما تَتَراكَمُ عليه، فَتَحْجِبُ عَنْهُ الرُّؤْيَةَ
الصحيحةَ لِدُروبِ الحياةِ السعيدة، حَتَّى تَضِيقَ عليه حياتُه ثم يُحاوِلُ
التَّخَلُّصَ مِن هذا الضِّيقِ وَلَوْ بإنْهاءِ حياتِه والعِياذُ بالله، كَما هُوَ
الواقِعُ مِن كثيرٍ مِن الأفرادِ الذين فَقَدُوا هِدايَةَ العقيدةِ الصحيحةِ، والإيمانِ
والعملِ الصالح.
ويُضافُ
إلى ذلك بَذْلُ الأسبابِ الجالِبةِ إلى الطُّمأنِينَةِ والسكينةِ وراحةِ البال،
خُصُوصًا عِند انتشارِ الْمَخاوُفِ واشتِدادِ الأُمُورِ والتي منها:
أَوَّلًا:
كَثرةُ الدعاء، وملازمةُ أورادِ الصَّباحِ والْمَساءِ،
فإنَّ لِذلكَ تأثيرًا عَجِيبًا لَا يَشْعُرُ بِهِ إلَّا مَنْ حافَظَ عَلَى ذلك،
وَمَنْ قَرَأَ مَا وَرَدَ في فَضْلِ هذه الأَوْرادِ تَبَيَّنَ لَه ذلك.
ثُمَّ
إنَّ مُلازَمَةَ الذِّكْرِ والاستِغْفارِ مُطْلَقًا سَبَبٌ عَظِيمٌ
لِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَنُزُولِ السَّكِينَةِ وَتَقْوِيَةِ القَلْبِ، ( أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ).
ثانِيًا:
التَّوْبَةُ مِن الْمَعاصِي، والتَخَلُّصُ مِن الْمَظالِمِ
وحُقُوقِ الناسِ، فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا يُقْلِقُ المُؤْمِنَ: ذُنُوبُه
والحُقُوقُ التي عَلَيْهِ، خُصُوصًا عِنْدَما يَتَذَكَّرُ الْمَوْتَ ولِقَاءَ
اللهِ. فَكُلَّمَا كان العَبْدُ مُلازِمًا لِلتَّوْبَةِ، بَعِيدًا عَنْ كُلِّ مَا
يُشْغِلُ ذِمَّتَه فِيمَا يَتَعلَّقُ بِحُقُوقِ العِبادِ كان أكثرَ طُمَأْنِينَةً
وراحةً وسَعادَةً. ولِعِلْمِهِ أيْضًا أَنَّ الظُّلْمَ والذُّنُوبَ مِن أَعْظَمِ أَسْبابِ
العُقُوباتِ فِي الدنيا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَتَجِدُهُ فِي قَلَقٍ مِنْ ذلك.
ثالِثًا:
الإيمانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ، وَأَنَّ مَا أَصابَكَ
لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.
وَيَدْخُلُ في ذلكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَوْتِ وَمُفارَقَةِ الحياةِ، وذلِك
بِأَنْ تُوقِنَ بِأَنَّكَ لَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتابًا مُؤَجَّلًا،
فِي اليَوْمِ والساعَةِ والْمَكانِ وَالسَّبَبِ الذي قَدَّرَه، لَيْسَ لِأَحَدٍ
كائِنًا مَنْ كانَ أَنْ يُقَدِّمَ في ذلك شَيْئًا أَوْ يُؤَخِّرَه.
رابِعًا: الإقْبالُ
عَلَى عَمَلِ الآخِرَةِ، وَحَمْلُ هَمِّها. فَإِنَّ الانْشِغالَ بالدنيا
هُوَ الذي يَجْعَلُ العَبْدَ يَبْذُلُ سَعْيَه فِيها ويَبْنِي كُلَّ آمالِه فِيها
فَإِذا مَا تَذَكَّرَ المَوْتَ شَعَرَ بِأَنَّه خَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ وَكُلَّ ما
بَنَاه، وَلَوْ أَنَّه جَعَلَ سَعْيَه لِمَا بَعْدَ المَوْتِ مَا حَزِنَ عَلَى
فِراقِ الدُّنْيا إلَّا مِنْ أَجْلِ التَّزَوُّدِ بالطاعَةِ. قِيلَ لِأَبِي ذَرٍّ
رضي اللهُ عَنْه: ما بِالُنَا نَكْرَهُ المَوْتَ؟ قال: " لِأَنَّكُمْ عَمَّرْتُمْ الدنيا، وخَرَّبْتُمْ الآخِرَةَ،
فَتَكْرَهُونَ الِانْتِقالَ مِنْ العُمْرانِ إلَى الخَرَابِ ".
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ الله: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ مَا يُعَلِّقُ بِالدُّنْيا،
وَيَجْعَلُ الإنْسانَ في هَمٍّ وَقَلَقٍ: مُنافَسَةَ
الناسِ وَمُجاراتِهُمْ، والشُّعُورَ بِالنَّقْصِ، حَتَّى لَوْ كانَتْ حَالُهُ
حَسَنَةً، وَذلكَ عِنْدَمَا يَنْظُرُ إلى مَنْ فَوْقَه، فَالَّذِي يَتَمَنَّى
مِائَةَ أَلْفٍ، لَوْ أَنَّها حَصَلَتْ لَه، لَتَمَنَّى مِلْيُونًا، لِأَنَّه لا
يَزالُ يَشْعُرُ بِالنَّقْصِ. وَلَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْمِلْيُونَ، لَتَمَنَّى
عَشَرَةً مِثْلَها، لِأَنَّه لا يَزالُ يَشُعُرُ بِالنَّقْصِ، وَهَذِهِ مِنْ
أَشَدِّ البَلايا، عِنْدَمَا تَشْعُرُ بِالنَّقْصِ، وَأنْتَ لا يَنْقُصُكَ شَيْءٌ.
وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلم أَنْ يُعْجَبَ بِحالِ
أَهْلِ الثَراءِ، وَمَا مُتِّعُوا بِهِ، فَإنَّه مَتاعٌ قَلِيلٌ زائِلٌ، فقال
سُبحانَه: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما
مَتَّعْنا بِه أزواجًا مِنْهُم زهرةَ الحياةِ الدنيا ). يقولُ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: ( اُنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ أسْفَلَ
مِنْكُم، ولا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوقَكم فإنَّه أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُم ).
ثُمَّ اعْلَمْ أيُّها الْمُؤْمِنُ: أَنَّه
لابُدَّ وَأَنْ يَمُرَّ عَلَيْكَ في بَعْضِ الأَوْقاتِ هُمٌّ آَوْ قَلَقٌ أَوْ
حُزْنٌ، وَقَدْ تَشْعُرُ بِأَنَّكَ مَكْرُوبٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ
مَشاكِلٌ. وَلَكِنْ تَذَكَّرْ أَنَّ ذلكَ مِنْ مُكَفِّراتِ الذُّنُوبِ، فَإنَّه
مِمَّا يُعِينُكَ عَلى الصَّبْرِ والسَّكِينَةِ والطُّمَأْنِينَةِ. يَقُولُ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( مَا يُصِيبُ
الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أَذًى،
وَلاَ غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُها. إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ
خطَايَاه ).
وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ: أَنْ
يَتَجَنَّبَ كَثْرَةَ الجَدَلِ والْمُغالَطاتِ، فَإنَّها تُورِثُ قَسْوَةَ
القَلْبِ وانْشِغالَهُ بِالتَفْكِيرِ والهُمُومِ والصِّراعِ النَّفْسِيّ،
والبُعْدِ عَن العَمَلِ بِمَا يُفِيدُ. وقَد اشْتَهَرَ عِنْدَ السَّلَفِ: "
أَنَّ اللهَ إذا أَرادَ بِعَبْدِهِ شَرًّا فَتَحَ لَه بابَ الجَدَلِ، وأَغْلَقَ
عَنْهُ بابَ العَمَل، وإذا أرادَ بِعَبْدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَه بابَ العَمَلِ
وأَغْلَقَ عنه بابَ الجَدَل ". وهذا الْمَنْقُولُ عن السَّلَفِ دَلِيلُه
قَوْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( ما ضَلَّ قومٌ
بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ ).
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا ما يَنْفَعُنَا،
وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَحَبِّبْ إِلَيْنَا الإيمانَ وَزَيِّنْه في
قُلُوبِنا، وكَرِّه إِلَيْنَا الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، واجْعَلْنَا مِن
الراشدِين.
اللهم
لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً
إلا شفيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا
والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسّرتها، برحمتك يا
أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا
بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم اجمع
كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل
لعدوهم منةً عليهم، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل
السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم
احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك،
وأيدهم بتأييدك، واجعلهم أنصاراً لدينك وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|