العدل الأسري
الحمد لله القوي القدير ، العليم الخبير ، السميع البصير ، القائل في كتابه : } وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أصدق بشير، وأخلص نذير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
العدل الأسري من أهم مقومات السعادة في الحياة ، وسبب من أهم أسباب إبعاد العداوة والبغضاء بين الأقارب والأرحام ، ووسيلة من أهم وسائل الاستقرار النفسي داخل الأسر ، ولذلك هو مطلب شرعي ، وواجب ديني ، وضرورة اجتماعية ، لأنه إذا فقد العدل في محيط الأسرة ، فقد الأمن وحلت الشحناء ووجدت البغضاء ، وتأججت النفوس بالكره وامتلأت بالأحقاد ، وقد تكون نتيجة ذلك أعمالا تغضب الله U ، وتتنافى مع واجبات شرعه ، تؤدي إلى أمور لا تحمد عواقبها ، ولا تسر نتائجها ، وخاصة عندما يكون ضحيتها من ضعاف الإيمان ، الذين يسيرون أنفسهم حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم ، البعيدة كل البعد عن الدين ، والغير منضبطة بضوابط شرع رب العالمين .
تأملوا ـ أيها الأخوة ـ ماذا فعل أخوة يوسف به ، أرادوا أن يتخلصوا منه ، ورحمة به ألقوه في البئر ، لماذا ؟ لأنهم كما قال تعالى : } إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ { فأخوة يوسف لعب بهم الشيطان ، لأن يوسف وبنيامين ، أمهما أخرى ، فمجرد أنه جاء في أنفسهم ، أنه وأخوه احب عند أبيهم يعقوب ـ عليه السلام ـ منهم ، خططوا لقتله والتخلص منه . هذا ـ أيها الأخوة ـ وهم أبناء نبي من أنبياء الله ، فكيف بأبناء غيره ، الله المستعان !
فالعدل بين الأبناء أمر مطلوب ، وواجب من أهم الواجبات ، لكي لا يحقد بعضهم على بعضا ، ولا يكره بعضهم بعضا ، يقول U : } يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ { وفي الحديث الصحيح عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ t قال : أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ r ، قَالَ : فَأَتَى النَّبِيَّ r ، فَقَالَ : إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ عَطِيَّةً ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَك ، قَالَ r : (( أَعْطَيْتَ كُلَّ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟ )) قَالَ : لاَ ، قَالَ : (( فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ )) وفي رواية قال r : (( لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )) .
الجور ـ أيها الأخوة ـ أصل الظلم ، ونقيض العدل ، يجب على المسلم أن يحذره ، ولا يندفع وراء عواطفه الغير منضبطة بضوابط الشرع ، فيفضل بعض أبنائه على بعضهم ، ويدني بعضهم ويبعد بعضا ، كالذي يفاضل بين أبنائه من أجل جنسهم ، فيفضل الذكور على الإناث ، أو يفضل أبناءه من أجل أشكالهم ، فيدني الوسيم ، ويبعد الذميم ، أو يفضل أبناءه على حسب أعمارهم ، فيهتم بالصغير ويهمل الكبير ، أو يفضلهم من أجل محبته وميله لأمهم ، إذا كانوا من أمهات متعددات ، فيعامل أبناء الزوجة الجديدة ، غير معاملته لأبناء الزوجة القديمة ، وهكذا ، فهذا من الظلم المنافي للعدل ، الذي يأثم عليه المسلم ، ويعتبر معصية لله U ، ويؤثر في علاقة الأبناء فيما بينهم .
أيها الأخوة :
إن من العدل أن يعطى كل أبن حاجته ، ويعامل حسب ما تقتضيه مصلحته ، وإن كان من تمييز بينهم ، فيكون حسب ضوابط الشرع ، لا يكون بقصد التمييز والتفضيل ، كما قال تبارك وتعالى : } يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ { فالابن الذي يسعى لطلب العلم يعطى ما يعينه على طلبه ، ولكن الفاسق لا يعطى مثله ليستعين على فسقه ، والمريض من حقه أن يعطى لعلاجه ، والفقير يعطى لسد فقره ، وليس شرطا أعطاء الغني مثله ليزداد ماله ، والبنت التي لا تعمل يصرف عليها ، ولا يشترط أن تعطى الموظفة مثلها ، والفاضل يميز لفضله ، والمنحرف يؤدب لانحرافه ، وهذا كله من العدل ، لأن العدل معناه إعطاء كل ذي حق حقه . بعض الناس ـ أيها الأخوة ـ يقع بالظلم وعدم العدل عند موته ، فيقوم بحرمان بناته من ماله ، ويؤثر أبناءه الذكور ، بحجة أن الذكور امتداد له بعد وفاته ، فهم أولى بالمال من البنات ، بل بعضهم يحرم بنته بحجة أن لا تأخذ ماله فتعطيه زوجها ، فيحرمها لهذه الحجة الباطلة ، وهذا من الظلم الذي نهى الله عنه ، فإن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه ، فالواجب على الآباء تحقيق أمر الله U ، وترك الظلم الذي يقع على الأبناء ، والإنسان لا يدري أين الخير في الذكور أم في الإناث ، كما قال تبارك وتعالى : } ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً { فلنتق الله ـ عباد الله ـ وليكن العدل مبدأ لنا في التعامل مع أبنائنا .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
ومن العدل الأسري : العدل بين الزوجات ، لمن كان عنده أكثر من زوجة ، فهو أيضا مطلب شرعي ، يترتب عليه الاستقرار النفسي ، ويعتبر وسيلة للنجاة والسلامة في الدنيا والآخرة ، ولذلك جعله الله U شرطا للتعدد ، فقال تبارك وتعالى : } فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً { فالعدل شرط من أهم شروط التعدد ، على المعدد أن يعدل بين زوجاته في مبيته ونفقته وكسوته ، فلا يترك هذه لأنها كبيرة ، ويهتم بتلك لأنها صغيرة ، ولا يقضي ليلته في بيت الجميلة وليلة الأخرى في الاستراحة ، أو يكون بشوشا في يوم المعلمة ، ومكفهرا في يوم التي لا تعمل ، فالعدل شرط ، ومن عدد ولم يرعى هذا الشرط ، فإنه على خطر عظيم ، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة t يقول النبي r : (( من كانت له امرأتان ، فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وشقه مائل )) .
بعضهم ـ أيها الأخوة ـ يحتج على ظلمه وجوره لجهله ، يحتج بقول الله تعالى : } وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ { وهذا من الجهل العظيم بكتاب الله تعالى ، فالذي لا تستطيع أن تعدل به المحبة وميل القلب ، كما جاء عن النبي r في الحديث الصحيح : (( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )) فمحبتك ليست بيدك ، لا تملكها ، أما أفعالك ، نومك ، ونفقتك ، وكسوتك ، وتمشيتك وسفراتك ، هذا تملكه وتستطيع عليه ، الذي جعلك تقوم به للمدللة ، يجعلك تقوم به للأخرى ، والله U يقول في ختام الآية : } فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ { . فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعدلوا بين أولادكم ، ومن كان له زوجات فليعدل بينهما أو بينهن ، واحذروا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وللمظلوم دعوة مستجابة .
اسأله سبحانه أن يوفقنا لهداه ، وأن يجعل عملنا برضاه ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم إنا نسألك عز الإسلام والمسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم احفظ أوطاننا ، وأعز سلطاننا ، ووحد كلمتنا ، وقوي شوكتنا ، وأدم أمننا ، واغفر لنا ، وارحمنا ، ولا تجعلنا من الخاسرين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
|