من أحكام التعزية إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد عباد الله : اتقوا الله ، فقد قال سبحانه : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( وقال عز وجل من قائل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً جعلني الله وإياكم من عباده المتقين . أيها الأخوة المؤمنون : الابتلاء ، سنة من سنن هذه الحياة ، كما قال تبارك وتعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ومن أنواع الابتلاء ، الذي يبتلي الله به عباده : فَقْدُ مَنْ يحبون ، كما جاء عن النبي : (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة )) يعني يكفر الله عنه ذنوبه . ففقد الأحباب من الأهل والأقارب والأصحاب ؛ ابتلاء من الله يبتلي به بعض عباده ، ليكفر به من خطاياهم ، ويمحو به من سيئاتهم ، كما في الحديث المتفق عليه ، عن النبي أنه قال : (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة ُيشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه )) . أيها الأخوة : وهذا الابتلاء ، حينما ينزل ، أحيانا يكون شديدا ، فيصدم المسلم و يذهل وينسى ما ينبغي له أن يفعل ، كما في قصة المرأة التي مر بها النبي ، وهي تبكي عند قبر ، فقال لها : (( اتقي الله واصبري )) فقالت : إليك عني ، فإنك لم تصب بمصيبتي ، لأنها لم تعرفه ، فقيل لها : إنه النبي ، فندمت وأتت إليه ، فقالت : لم أعرفك فقال : (( إنما الصبر عند الصدمة الأولى )) . فأحيانا ـ أيها الأخوة ـ يحتاج المسلم المبتلى بالمصيبة إلى من يقف بجانبه ، إلى من يحثه على الصبر ، إلى من يذكره بالأجر ، ولذلك شرعت التعزية ، وجعلت عبادة ؛ يتقرب بها إلى الله . أيها الأخوة المؤمنون : وعندما نتأمل في حال الناس في مجتمعنا ، نجد الاهتمام البالغ في شأن التعزية ، ولكن كثير من المهتمين في هذا الجانب ، يجهلون آداب التعزية ولا يعرفون أحكامَها ، حتى أن بعضهم صارت عنده التعزية عادة ، وهي عبادة كما ذكرت . يوجد أيها الأخوة ، من الناس من يحرص على التعزية ، فما يسمع بميت مات إلا ويبادر إلى تعزية أهله ، والذهاب إليهم في بيتهم الذي اجتمعوا فيها للعزاء ، وفي الوقت نفسه تجده لا يصلي مع المسلمين ، ولا يحضر لبيوت الله لأداء الصلاة ، لأن التعزية جعلها كثير منهم كالعادة ، وبعضهم يعتبرها كالمكافأة ، فيذهب إلى آل فلان لأنهم جاءوا إليه وهكذا , بل بعضهم يذهب للتعزية خوف الملامة ! فالتعزية ـ أيها الأخوة ـ ليست عادة إنما هي عبادة ، هي سنة ثابتة عن النبي ، فعلها بنفسه وحث عليها أصحابه وأمته ، ففي الحديث الصحيح عن قرة المزني قال : كان نبي الله إذا جلس ، يجلس إليه نفر من أصحابه ، فيهم رجل له ابن صغير ، يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، فقال له النبي : (( تحبه ؟ )) فقال : يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ! فهلك ، يعني مات ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي ، فقال : (( مالي لا أرى فلانا ؟)) فقالوا : يا رسول الله بنيه الذي رأيت هلك ، فلقيه النبي فسأله عن بنيه ؟ فأخبره بأنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال : (( يا فلان ، أيما كان أحب إليك : أن تمتع به عُمُرَك ، أولا تأتي غَدَاً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ )) قال : يا نبي الله ، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها إلي ، لهو أحب إلي ، قال : (( فذاك لك )) ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله : جعلني الله فداءك ؛ أله خاصة أو لِكُلِّنا ؟ قال : (( بل لِكُلِّكم )) . الشاهد : فعزاه عليه ، فالتعزية من فعل النبي ، بل حث عليها أمته ، ورغبهم فيها ووعد من قام بها بالأجر الكثير ، كما في حديث أنس بن مالك عن النبي قال : (( من عزى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة )) قيل يا رسول الله ما يحبر ؟ قال : (( يغبط )) . أيها الأخوة المؤمنون : والتعزية حق من حقوق المسلم على إخوانه ، فالأخوة الصحيحة تكون في حال الشدة ، كما هي في حال الرخاء ، ولنا في رسول الله أسوة ، ففي الحديث عن بريدة قال : كان رسول الله يتعهد الأنصار ، يعودهم ، ويسأل عنهم ، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره ، وأنها جَزِعَت عليه جزعا شديدا ، فأتاها النبي ومعه أصحابه ، فلما بلغ باب المرأة ، قيل للمرأة : إن نبي الله يريد أن يدخل ، يعزيها ، فدخل رسول الله فقال : (( أما إنه بلغني أنك جَزِعْتِ على ابنك )) فأمرها بتقوى الله وبالصبر ، فقالت : يا رسول الله ؛ ما لي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد ، ولم يكن لي غيره ؟ فقال رسول الله : (( الرقوب : الذي يبقى ولدها )) ، ثم قال : (( ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة )) ، فقال عمر وهو عن يمين النبي : بأبي أنت وأمي ؛ واثنين ؟ قال : (( واثنين )) . فالتعزية ـ أيها الأخوة ـ سنة ثابتة ، وعبادة عظيمة ، اسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته إنه سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا . أيها المسلمون : وبما أن التعزية عبادة دلت عليها الأدلة من سنة النبي ، وفعلها وأمر بها صلوات ربي وسلامه عليه ، فإنه لابد أن تكون كما جاء عنه ، لأنها إن لم تكن كذلك فإنها سوف تكون بدعة من البدع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة والعياذ بالله في النار . أيها الأخوة : والذي يستقري النصوص ، ويطلع على الأدلة ، يجد أن التعزية ليس لها وقت معين إنما هي من حين يموت الميت إلى أن يدفن وبعد الدفن ، وكذلك ليس لها مكان معين إنما يعزي المسلم أخاه في أي وقت وفي أي مكان سواء في المقبرة أو في الطريق أو في المسجد أو في البيت أو في أي مكان يلقاه فيه . وقد حذر العلماء ـ أيها الأخوة ـ من بعض ما أحدث في هذه العبادة ، ولعلي أنقل ما قيل نصا ليكون أبلغ في التأثير واسأل الله أن يجد آذانا صاغية وقلوبا واعية . يقول ابن القيم الجوزية رحمه الله : وكان من هديه تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ، ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة . ويقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما : الأول : الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار أو المقبره أو المسجد . الثاني : اتخاذ أهل الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء . وذلك لحديث جرير بن عبدالله البجلي قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة . والمقصود بالطعام أيها الأخوة ، هو أن يقوم أهل الميت بصنع الطعام لمن يفد إليهم فهذا لا يجوز ، أما أن يأتي الجيران بالطعام لأهل الميت فهذا من السنة . وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة : تعزية المصاب مشروعة ، وهذا لا إشكال فيه ، وأما تخصيص وقت معين لقبول العزاء وجعله ثلاثة أيام فهذا من البدع ، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) . وقال الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ : إن اجتماع أهل الميت لاستقبال المعزين هو أيضا من الأمور التي لم تكن معروفة حتى أن بعض العلماء قال إنه بدعة ، ولهذا لا نرى أن أهل الميت يجتمعون لتلقي العزاء بل يغلقون أبوابهم وإذا قابلهم أحد في السوق أو جاء أحد من معارفهم دون أن يعدو لهذا اللقاء عدته فإن هذا لا بأس فيه . أما استقبال الناس فهذا لم يكن معروفا على عهد النبي حتى كان الصحابة يعدون اجتماع أهل الميت وصنع الطعام من النياحة . وسأل رحمه الله ، سؤالا قد يتبادر مثله إلى أذهان بعضكم ، قال السائل : مسألة العزاء والاجتماع عليه ، بعض الناس لو كلمناهم في هذا يقول : نحن نفعل هذا ولا نقصد به التعبد إنما نقصد به العادة . كيف الرد عليهم ؟ قال رحمه الله : الجواب على هذا أن التعزية سنة ، والتعزية من العبادة ، فإذا صيغت العبادة على هذا الوجه الذي لم يكن معروفا في عهد الرسول صارت بدعة ، ولهذا جاء الثواب في فضل من عزى المصاب ، والثواب لا يكون إلا على العبادات . وأخيرا أيها الأخوة ، قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان ، عضو هيئة كبار العلماء ، لا ينبغي الجلوس للعزاء والإعلان عن ذلك كما يفعل بعض الناس اليوم . أيها الأخوة المؤمنون : فلنتق الله في هذه العبادة العظيمة ، ولنجعلها كما جاء عن نبينا ، ولنحذر الابتداع فإن البدعة شر ، اسأل الله أن يرزقني وإياكم الإتباع ويجنبنا الابتداع إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الفقه في الدين ، والتمسك بالكتاب المبين ، والعمل بسنة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين اللهم واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين . اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور ، وبعمل متقبل مبرور برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل , ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . عباد الله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|