الاستئذان
عبادة الحمد لله المطلع على مافي
الضمائر ، العالم بما تكنه السرائر ، الملك خلق فقدر ، وشرع فيسر ، وقسم خلقه إلى
مؤمن وكافر ، وبر وفاجر . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ،
وبعظيم سلطانه ، يسر عبادته ، وسهل طاعته ، وحفظ لعبده كرامته ، وهو العلي العظيم
القاهر . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، من جحده فهو الخائن الغادر
. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،
وصفيه وخليله ، أنار بهديه البصائر ، وأيقظ بسنته الضمائر ، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه ، أهل الفضائل والمفاخر ، وسلم تسليما كثيرا . أما
بعد ، عباد الله : اتقوا الله U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل
لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين . أيها
المسلمون : الاستئذان
عند الدخول على الغير ، عبادة عظيمة ، وأدب إسلامي رفيع ، بدونه تنتهك الخصوصيات ،
وتكشف العورات ، ولذلك أمر الله U به ، وحث عليه ، يقول تبارك وتعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { ومعنى تستأنسوا أي تستأذنوا ، ذكر ذلك ابن كثير والطبري والقرطبي
في تفاسيرهم - رحمهم الله تعالى - فلا يجوز - أيها الأخوة - لكائن من كان ، أن
يدخل على أحد في بيته إلا بعد أن يستأذن منه، فإن أذن له دخل ، وإلا رجع ، ولذلك
قال الله U في الآية التي تلي الآية
السابقة: } فَإِن لَّمْ تَجِدُوا
فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ { يقول القرطبي في تفسيره: سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا رَوَاهُ
الطَّبَرِيّ وَغَيْره عَنْ عَدِيّ بْن ثَابِت أَنَّ اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار
قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أَكُون فِي بَيْتِي عَلَى حَال لَا أُحِبّ
أَنْ يَرَانِي عَلَيْهَا أَحَد , لَا وَالِد وَلَا وَلَد فَيَأْتِي الْأَب
فَيَدْخُل عَلَيَّ وَإِنَّهُ لَا يَزَال يَدْخُل عَلَيَّ رَجُل مِنْ أَهْلِي
وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَال, فَكَيْفَ أَصْنَع ؟ فَنَزَلَتْ الْآيَة. فَقَالَ
أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَا رَسُول اللَّه, أَفَرَأَيْت الْخَانَات
وَالْمَسَاكِن فِي طُرُق الشَّام لَيْسَ فِيهَا سَاكِن ; فَأَنْزَلَ اللَّه
تَعَالَى : } لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ { . أيها
الأخوة المؤمنون : إن بعض المسلمين -
هداهم الله - يتهاونون في هذه العبادة العظيمة ، فيدخلون على غيرهم ، في أماكنهم
الخاصة بهم ، بدون استئذان ، وخاصة عندما يكونون من أقاربهم ، فتجد الولد يدخل على
والديه بدون أن يستأذن، والأخ يدخل على أخواته ، ورب البيت وأبناؤه يدخلون على
خادمتهم، غير مبالين بأمر لايحبه الله U ، ولا يرضاه مسلم يحرص على آداب دينه، ذكر الطبري في تفسيره عن
عطاء بن يَسَار أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ e : أَسْتَأْذِن عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ : (( نَعَمْ )) قَالَ : إِنِّي أَخْدُمهَا ؟ قَالَ : (( اِسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا )) فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا
; قَالَ (( أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَة )) ؟
قَالَ لَا ; قَالَ : (( فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا )).
أيها
الأخوة المؤمنون : ومما يدل
على أهمية الاستئذان ، عناية الإسلام به ، وتوضيح آدابه ، وتعليمه صغار السن ،
الذين لم يبلغوا الحلم ، ليتعودوا عليه ، كما قال تبارك
وتعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء
ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ
مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { فالطفل الذي لم يبلغ الحلم ، يعلم الاستئذان ، ويمنع من الدخول
على والدية إلا بإذن منهم ، في الأوقات الثلاث التي نصت عليها الآية: } ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن
قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن
بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ { أما إذا بلغوا الحلم ، فيجب عليهم في جميع الأوقات ، ألا يدخلوا
إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم . هل رأيتم - أيها الأخوة - أجمل وأفضل وأكمل من الإسلام ؟ لذلك هو
الدين المرتضى ، } وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ { . أيها
الأخوة : يقول ابن
عباس - رضي الله عنهما - لم يؤمن بها أكثر الناس، آية الأذن. وسأل الشعبي عن آية
الاستئذان، هل نسخت؟ قال : لم تنسخ . فقال السائل : فإن الناس لا يعملون بها !
فقال : الله المستعان ! فالله
المستعان - أيها الأخوة - لو رأى ابن عباس أو
الشعبي ، حال المسلمين أو بعضهم اليوم، لعدم العمل بهذا الأدب الإسلامي، صار الناس
يضعون أبوابا متعددة، وأقفالا متنوعة، بل مناظير في بعض الأبواب ، وكمرات مراقبة
في بعض البيوت. أما الأطفال الذين بلغوا الحلم ولم يبلغوا ،
فأحوالهم في بيوتهم أحوال يندى لها الجبين ، ولذلك اسمع ما ينقله بعض الأطفال من
أحوال آبائهم مع أمهاتهم ، وما يصفه بعضهم عن دقائق أمور أخواتهم ، وهذا كله وقد
يكون عقوبة من الله لترك وهجر العمل في هذه الآيات الكريمات . فاتقوا الله
- عباد الله - وتأدبوا بهذا الأدب الرفيع ،
وعلموه أبناءكم ، روى البخاري في الأدب المفرد، أنا موسى بن طلحة قال: دخلت مع أبي
على أمي فدخل فاتبعته، فالتفت فدفع في صدري حتى أقعدني على أستي - أي دفعه حتى وقع
على الأرض - ثم قال : أتدخل بغير أذن . فتأملوا حرصهم على الاستئذان . اسأل الله لي ولكم علما نافعا
وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه ،
والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما
لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه وسلم تسليما كثيرا . أيها
المسلمون : اعلموا -
رحمني الله وإياكم - بأن ترك الاستئذان كبيرة من كبائر الذنوب ، فاحرصوا عليه ،
وتأدبوا بآدابه ، ومن أهم آداب الاستئذان ، أن لا يزيد على الثلاث ، فيقول
المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن أذن له وإلا رجع ، لقول النبي e في الحديث الذي رواه الطبران : ((
إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع )) ومنها عدم النظر إلى ما في
داخل البيت أو الغرفة ، عند الاستئذان ، لأن الاستئذان ما جعل إلا من أجل النظر ،
ففي الحديث الذي رواه الطبراني عن سعد بن عبادة t أنه استأذن وهو مستقبل الباب، فقال له النبي e: (( لا تستأذن وأنت مستقبل الباب ))
وفي رواية قال : جئت إلى النبي e وهو في بيت فقمت مقابل الباب فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد . ثم
جئت فاستأذنت فقال: (( وهل الاستئذان إلا من أجل
النظر )) . وعلى المسلم
أن يحذر من اختلاس النظر إلى الناس في بيوتهم، ففي الحديث الصحيح عن سهل ابن سعد t قال : اطلع رجل من جحر في حجر النبي e ومع النبي e مِدْرَى - أي حديدة - يحك بها رأسه فقال : (( لو أعلم أنك تنظر لطعنتُ بهِ في عينك ، إنما جعل الاستئذان
من أجل البصر )) . ومن
الآداب الهامة للاستئذان إخبار من تستأذن عليه باسمك الذي يعرفك به ،
وعدم قول أنا ، فبعض الناس إذا قيل له من : قال : أنا . وهذا أمر كرهه النبي e ، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبدالله t قال : أتيت النبي e في دين كان على أبي ، فدققت الباب فقال : (( من ذا ؟ )) فقلت : أنا . فقال e : (( أنا أنا )) كأنه
كَرِهَهَا . أيها
الأخوة المؤمنون : لقد أدرك
الصالحون هذا الأدب العظيم فتأدبوا به حتى مع أقرب الناس إليهم، بل حتى مع زوجاتهم
، تقول زينب الثقفية، زوجة عبدالله بن مسعود t: كان عبدالله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة
أن يهجم منا على أمر يكرهه، يقول عطاء: قلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: استأذن
على أختي ؟ فقال: نعم . فأعدت فقلت : أختان في حجري، وأنا أمونهما وأنفق عليهما ،
استأذن عليهما ؟ قال : نعم ، أتحب أن تراهما عريانتين ؟ ثم قرأ : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء
ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ { قال : فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث . قال : } وَإِذَا بَلَغَ
الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ { قال ابن عباس : فالإذن واجب على الناس كلهم . فاتقوا الله - عباد الله - وتمسكوا بتعاليم دينكم ، وامتثلوا
لأمر ربكم . جعلني الله وإياكم من
العاملين بكتابه ، المهتدين بهدي نبيه محمد e ، السائرين على ما سار عليه
سلفنا الصالح . اللهم إنا نسألك أن تهدي قلوبنا ، وأن تنير عقولنا ، وأن تصلح
نفوسنا برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين،
واقض الدين عن المدينين، واشف مرضى المسلمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى
والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء يا
رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار . اللهم وفق
ولاة أمرنا لهداك واجعل عملهم برضاك ، اللهم أحفظ لنا إمامنا خادم الحرمين
الشريفين
وانصر به دينك وكتابك وسنة نبيك e . } رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم
واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |