الأعلى والغاشية
الحمد لله رب العالمين ، أنزل القرآن هدى للمتقين ، وحجة على الناس أجمعين ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه } لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الحكمة الباهرة في شرعه ، والحجة البالغة على خلقه ، } قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ {
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، بعثه رحمة للعالمين ، وقدوة للسالكين ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد عباد الله :
تقوى الله U هي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، فهو القائل سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ثبت عن النبي e كما في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن سمرة بن جندب t أنه e : (( كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ )) بل ـ أيها الأخوة ـ ثبت عنه e أنه قرأ بهما في يوم مرتين ، عندما وافق العيد يوم الجمعة ، كما في الحديث الذي رواه مسلم ـ رحمه الله ـ عن النعمان بن بشير ـ رضي لله عنهما ـ قال : كان رسول الله e يَقْرَأُ في الْعِيدَيْنِ وفي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ، قال : وإذا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا في الصَّلَاتَيْنِ .
أيها الأخوة المؤمنون :
فاختيار النبي e لهاتين السورتين ، وقراءته لهما في يوم يجتمع فيه المسلمون ، وبعد استماعهم وتذكيرهم بما يهمهم من أمر دينهم ، يدل على أهميتهما ، وحاجة الناس إلى ما فيهما من تذكير وتوجيه ، ففي سورة الأعلى ، يفتتحها الله U بالأمر بتنزيهه وتقديسه } سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى { فهو الأعلى عن كل ما لا يليق به ، وهو العالي بذاته وصفاته ، ثم يذكر U بقدرته : } الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى { فهو الخالق المقدر لكل الأشياء ، مخرج النبات الأخضر من التراب ، لترعاه الدواب ، ثم يجعله يابسا هشيما تذروه الرياح .
ففي هذه الآيات ـ أيها الأخوة ـ دليل على قدرته سبحانه ، والله لو اجتمع أهل الأرض جميعا ، لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا من ذلك ، وصدق الله : } وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
وبعد هذه الآيات يقول تبارك وتعالى لنبيه e : } سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى { أي سنعلمك القرآن فلا تنسى ما تسمع ، فقد كفيناك حفظه فلا تخف ضياعه من صدرك ، } وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى { نوفقك في كل أمورك لأيسر الطرق وأسهل السبل } فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى { انصح الناس ، أرشدهم إلى الحق ، أدعهم إلى الهدى ، اجتهد في ذلك ، بين لهم الطريق الصحيح ، ذكرهم بما ينجيهم من عذاب النار وما يدخلهم الجنة ، هذه فقط مهمتك ومهمة الدعاة من بعدك ، وكما قال تعالى : } فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {.
ثم يبين تبارك وتعالى ، حال الناس وتأثرهم بالتذكير والمواعظ ، ومن يستجب منهم للدعاة إلى الله تعالى ، فيقول U : } سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى { فالذي يخشى الله U ، الذي يخاف من الله U ، الذي لله سبحانه مكانة في قلبه ، المؤمن الصحيح والتقي ، هو الذي سوف يستفيد من التذكير ، أما الأشقى الفاجر الذي عميت بصيرته ، فإن الذكرى لن تؤثر فيه ، إنما هو كما قال تعالى : } وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى { أي يتجنب الذكرى ـ نسأل الله العافية ـ فمصيره كما قال U : } الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى { وهذا أنكد العيش أيها الأخوة ، أن يكون الإنسان لا حيا فيرجى ، ولا ميتا فينعى .
أخي المسلم ! تأمل حالك عندما تستمع لموعظة يراد منها خيرا لك في دنياك وأخرتك ، ماهي حالك بعد استماعك لخطبة الجمعة ، فالخطبة هي أهم وسيلة لتذكير المسلم ، فاحرص أخي أن تكون ممن يستفيد وينتفع بالذكرى ، وإياك أن تكون من النوع الآخر أعاذني الله وإياك منهم .
أيها الأخوة :
ويذكر الله U ، قبل نهاية هذه السورة العظيمة ، ماهو الفلاح الحقيقي ، والفوز الأكيد ، فيقول تبارك وتعالى : } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{ الفلاح هو الظفر والفوز برضوان الله وثوابه ، وهو الأمر الذي يستحقه من طهر نفسه من الذنوب ، وبرأها من العيوب ، وأخلصها لعلام الغيوب ، وأشار U إلى أهمية الذكر والصلاة .
أيها الأخوة :
ويختم U هذه السورة العظيمة الكريمة ، بالتحذير من إيثار الفانية على الباقية ، فيقول تبارك وتعالى : } بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى { أي تقدمون حب الدنيا على حب الآخرة ، وتفضلون الفانية على الباقية ، وتعملون للعاجلة وتتركون الآجلة ، والآخرة خير لكم وأبقى من الدنيا ، لأنها دار البقاء والنعماء وحسن الجزاء ، أما الدنيا فهي دار فناء وبلاء وضراء ، } إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى { إن ما سمعتم إنما هو وحي محكم ، وكلام رب كريم ، وتوجيهات نافعة ، ووصايا مفيدة ، ذكرت في كتب سابقة فاعملوا بها واحرصوا عليها واحذروا من مخالفتها ، فبها نجاتكم وفلاحكم ، وفوزكم في دنياكم وآخرتكم .
هذه سورة الأعلى أيها الأخوة ، اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وأما سورة الغاشية ، فهي أيضا سورة عظيمة ، ذكر الله U في مقدمتها ، صفات من يعبد الله U على جهل ، ويتقرب إليه سبحانه بما لم يشرع له ، فيقول تبارك وتعالى : } هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ { فهذه من أخبار القيامة ، التي تغشى الأبصار بهولها ، وتذهل القلوب بدواهيها ، فهؤلاء جزاء مخالفتهم لشرع الله ، وتقربهم إلى الله بما لم يشرعه لهم سبحانه ، لم ينتفعوا بما عملوا ، بل صار وبالا عليهم ، ولكن هناك صنف آخر وجوههم : } نَاعِمَةٌ ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ { نسأل الله الكريم من فضله .
أيها الأخوة المؤمنون :
ويذكر الله U ، بعد هذه الآيات ، بعض آياته التي تدل على قدرته وعظمته : } أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ { فخلق الأبل ، ورفع السماء ، ونصب الجبال ، وبسط الأرض أمور تدل على عظمة الخالق سبحانه ، } فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ { هذه مهمتك ، لن تجبر الناس على الإيمان والتمسك بهذا الدين ، ولكن : } إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ { الذي يتولى عن الهداية ، ويكفر بالرسالة ، فإنه يستحق العذاب ، وأين يذهب من عذاب الله U : } إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ { .
فلنتق الله ـ أيها الأخوة ـ ولنحذر عن الغفلة عن آيات الله ، ولا يكون همنا انصرافنا من يوم الجمعة ، ووصولنا لبيوتنا لنقرأ الصحف والمجلات ، ونشاهد الأخبار والمباريات .
اسأله U أن يجعلنا جميعا من الذين إذا ذُكّروا ذكروا ، وإذا عملوا شكروا ، وإذا أذنبوا استغفروا ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم ، والعيد المبارك الكريم ، أن تهدي قلوبنا ، وأن تصلح نفوسنا ، وأن تعف فروجنا ، وأن تعافي مرضانا ، وترحم موتانا ، وتعافي من ابتليته منا ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، و أصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر. } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|