الغفلة عن الآخرة
الحمد لله ذي الكرم والجلال ، والفضل والنوال ، يعلم ما في السرائر ويطلع على ما في الضمائر : } عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لكم ولمن كان قبلكم : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ اعملوا بوصية ربكم لكم ، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره والبعد عما نهاكم عنه ، وقدموا لأنفسكم : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الغفلة عن الآخرة أمر خطير ، وكارثة عظيمة ، وهي مصيبة العصر ، التي أصابت كثيرا من المسلمين ، بل هي داؤهم في هذا الزمان ، وهي سبب ضعف شوكتهم ، وضياع وحدتهم ، وذهاب ريحهم ، فالمسلمون اليوم هم أكثر الناس عددا ، وأقواهم مددا ، ولكنهم بجملتهم غثاء كغثاء السيل ، والسبب هو غفلتهم عن الآخرة ، والشاهد على ذلك قول النبي r ، ففي الحديث الذي رواه أبو داوود عن ثَوْبَانَ ، قال : قال رَسُولُ الله r : (( يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَتدَاعى عَليْكُم كَمَا تَتدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا ، فقالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ : بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثاءُ كَغُثاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِ عَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ ، فقالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ ؟ قالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ )) . فالغفلة عن الآخرة هي داء الأمة ـ يا عباد الله ـ فالأمة بجملتها غافلة عن الآخرة ، معرضة عما خلقت من أجله ، لا هم لها إلا زخارف هذه الحياة الفانية ، اكتظت ملاعبها وقل رواد مساجدها ، عمرت المسارح ورخص لها ، وأغلقت حلقات الذكر وشدد عليها ، شجع المغنون والممثلون ، وحورب الدعاة والخطباء ، كثر السفور والتبرج ، وقل الحجاب ، صار السفلة رموزا وقدوات ، وحورب المصلحون والدعاة ، فضلت القوانين الوضعية ، وعطلت النصوص الشرعية ، هذه حال الأمة إلا من رحم الله وقليل ماهم ، لا تظنون ـ أيها الأخوة ـ أن بلاد غيركم من المسلمين ، كبلادكم المحكومة بشرع الله تعالى ، والله ـ أيها الأخوة ـ أن المسلم في غير هذه البلاد ، يذهب إلى الصلاة ويرى من مخالفات الدين ما الله به عليم.
الشاهد ـ أيها الأخوة ـ غفل أكثر المسلمين عن الآخرة ، فلا هم لأكثرهم إلا هذه الدنيا وحطامها الزائل ، وظيفة ـ أيها الأخوة ـ يعلن عنها واحدة يتقدم لها آلاف الأشخاص ، وتنافس في الأسواق والمتاجر ، وتزاحم على المراتب والمناصب ، ولكن أعلن عن أمر ثوابه الجنة ، وتأمل كم الذين يتقدمون له ، أو يتنافسون عليه ؟ لاشك قلة بل يعدون على الأصابع ـ نسأل الله العافية ـ .
أيها الأخوة المؤمنون :
الناس فيهم خير ، ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم ، ولكن الغفلة هي داؤهم ، تصدقون ـ أيها الأخوة ـ أن أحدهم تبرع بمائة ألف ريال لأحد الأندية ، وطلب عدم ذكر اسمه واكتفى بفاعل خير ، فالخير موجود في أمة محمد ، بل في هذه البلاد خاصة ، ولكن الغفلة عن الآخرة مرض موجود أيضا ـ أيها الأخوة ـ ولعلنا نذكر مثالا واحدا فقط ، يؤيد ما أقول ، الوقف ـ أيها الأخوة ـ وقد تحدثنا عن فضله مرارا ، ومن منا من لا يدرك أهمية الوقف ، وحاجة الأحياء له بعد موتهم ، ولكن كم الذين فعلوا ذلك حقيقة وعملا ، كم الذين أوقفوا شيئا من أموالهم الطائلة ، وأملاكهم المتناثرة ، والله ـ أيها الأخ ـ لو توقف مصحفا واحدا ، تجعله لك وقفا لجرى لك أجره إلى يوم القيامة ، يقول النبي r (( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علماً نشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مصحفا ورثَّه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد مماته )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالغفلة عن الآخرة وترك العمل لما بعد الموت ظاهرة سيئة في مجتمعات المسلمين ، وقد نبهنا الله U في كتابه لهذا الأمر الخطير فقال : } وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى { وقال سبحانه : } وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { . أي استعمل ما أعطاك الله من هذا المال في طاعته ، فيما يقربك منه ، بما يحصل لك الثواب من جرائه ، } وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا { ، أي مما أباح الله لك ، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
يجدر بالمسلم ، أن يكون قصده في جميع أعماله ؛ الدارَ الآخرة ، ولا يكون قصده الدنيا ، لأنه إن قصد الدنيا بعمله ؛ فإنه على خطر عظيم ، يقول تبارك وتعالى : } مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ { ، الذي يعمل للآخرة ، ويريد الآخرة ، يزد الله له في حرثه ، يقويه ويعينه بل ويضاعف له أجره ، أما الذي لم يرد إلا الدنيا ؛ فإن الله U قد يعطيه شيئا منها ، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب ، فالأمر خطير ـ أيها الأخوة ـ ليس بالسهل ، يقول U في آية أخرى: } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا { فالأمر واضح ، ولكن أين العقول ، أين عقول الطغاة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ، الذين صارت الدنيا هي أكبر همهم ، لقد صدق رسول الله e في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : (( الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له )) .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا هذه الدنيا الفانية الزائلة ، واعملوا لآخرتكم ، ففي الحديث الصحيح يقول النبي e قال : (( من كانت همه الآخرة ، جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، واتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ماكتب الله له )) .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، واغفر لنا وارحمنا ، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عن من سواك ، اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وغلبة الدين وقهر الرجال ، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يرفع ، اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة يارب العالمين .
اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا برضاك ، اللهم أصلح أحوال أمة محمد r ، اللهم من أرادها بسوء اللهم اشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل اللهم تدبيره سببا لتدميره يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيثنا ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريعا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار . اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم اغفر لنا وارحمنا ، اللهم تجاوز عنا ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، اللهم ارحم شيوخا ركع ، وأطفالا رضع ، وبهائم رتع ، انزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين ، اللهم سقيا رحمة لا عذاب ولا هدم ولا غرق .} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .
|