بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لاشريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أما بعد:
فإنه من سنة الله القدرية في هذه الأمة, وفي الأمم قبلها أن أكثر الناس بعد أنبيائهم, يضلون عن الصراط المستقيم, كما قال عليه السلام عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير أمتي قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة, ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون, ويخونون ولا يؤتمنون, وينذرون ولا يفون, ويظهر فيهم السمن)), أخرجاه. (1) وفي رواية لمسلم: ((ويحلفون ولايستحلفون)). (2)
ومصداق هذا في كتاب الله قوله تعالى: (( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ{116} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{117} وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119} وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{120})).
فقوله: (إلا قليلا ممن أنجينا), فيه إشارة لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين, ثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة, وهي الجماعة, وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه, لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)), (3) رواه أهل السنن عن جمع من الصحابة, وهذا لفظ أبي داود عن معاوية رضي الله عنه.
وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }, فقوله: (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ), حمد لإحدى الطائفتين, وهم المؤمنون وذم للأخرى.
وقال تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ },التوبة69.
فقد روى مالك, والنسائي, والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين, ونحن حديثو عهد بكفر, وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم, يقال لها: ذات أنواط, فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله, اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن, قلتم والذي نفسي بيده, كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم ), قال: إنكم قوم تجهلون, لتركبن سنن من كان قبلكم)). (4)
وفي الصحيحين: عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه, قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)). (5)
وما رواه البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر, وذراعا بذراع, قالوا: فارس والروم, قال: فمن الناس إلا أولئك)). (6)
قال شيخ الإسلام بن تيمية: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك, والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات. "
وقال ايضا: " وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم, فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا, أو ,لا قولا, ولا عملا, وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم, فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله, ويقولون على الله مالا يعلمون, ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود, ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى, وليس هذا أيضا موضع شرح ذلك.
ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه, حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة, حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه, قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)). (7)
وروى البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر , وذراعا بذراع, فقيل: يا رسول الله كفارس والروم, قال: ومن الناس إلا أولئك)), (8) فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى, وهم أهل الكتاب, ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم, وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء, وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة)) (9), وأخبر صلى الله عليه وسلم ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة, و أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته" (10).
فصل فكان التوحيد والسنة, مصداقا لقوله عليه السلام هما الظاهران في بلاد المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة، فلم يوجد في الجزيرة العربية وخصوصا الحجاز بدعة ظاهرة ألبتة, ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة, كما خرج من سائر الامصار ، ثم بعد القرون المفضلة " وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن اجماع أهلها ليس بحجة, اذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها, لاسيما من حين ظهر فيها الرفض, فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم, منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة, أو قبل ذلك, أو بعد ذلك, فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان, وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم, لا سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية, وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة, وبذل لهم أموالا كثيرة فكثرت البدعة فيها من حينئذ." (11)
وقال رحمه الله: "وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة, وفيهم من البدع والضلال والفجور مالا يعلمه إلا الله, وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون, وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد, فلو ذلت هذه الطائفة والعياذ بالله لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس لاسيما وقد غلب فيهم الرفض." (12)
يشير عليه رحمة الله الى ما حدث للمسلمين في أواخر القرن السابع من غزو التتار, وأن ظهور السنة في ذلك الوقت بالشام.
فصل وكان للرافضة اليد الطولى على المسجد النبوي بل وعلى الإمارة فيها لعدة قرون: " وكانت الخطابة قبله بأيدي آل سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الشريف الحسيني, بل وكان الحكم مرجعه إليهم, فلم يكن لأهل السنة خطيب ولا حاكم منهم. قال ابن فرحون: والظاهر أن ذلك منذ استيلاء العبيديين على مصر والحجاز . فإن الخطبة في المدينة كانت بأيديهم " (13)
وقال شيخ الإسلام: "ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد, أنه يستحب الجهر أحيانا بذلك فيستحب الجهر بالبسملة أحيانا ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة, فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها, وينكرون على من لم يجهر بها, لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع, وإستولى عليها, وعلى أهل مكة العبيديون المصريون وقطعوا الحج من العراق مدة, وإنما حج القاضي من الشام." (14)
فصل فلم تظهر أنوار التوحيد والسنة على الجزيرة العربية بعد القرون المفضلة إلا بعد ظهور دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, وقيام الدولة السعودية في القرن الثاني عشر, وهذا بإجماع علماء أهل السنة, وامتدت أنوارها إلى بلاد الشام واليمن حتى بلغت الهند وأفريقيا, والأمر الذي يقف عنده العاقل متفكرا ومتعجبا أن هذه الدولة قامت, ثم سقطت, ثم قامت, ثم سقطت, ثم قامت ولاتزال, وهذا عند التأمل في سنن الله الكونية القدرية في الأمم والمجتمعات المسلمة نادر الوقوع, مما يدل على أنه أمر رباني مرتبط بالأسباب الشرعية قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}النور55, وقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج41.
فصل وكان من ثمارها زوال مظاهر الشرك والبدع من الحرمين الشريفين وإقامة الشريعة, وظهور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أثلج صدور الموحدين وأقر أعينهم وكان من منهاجها في العصر الحديث أنها:
1- لم تقم على أساس انفصالي عن جماعة المسلمين الملتزمين لشرع الله، بل كل مسلم متمسك بالكتاب والسنة فهو من أهلها .
2- لم ترتض لنفسها اسما أو عنوانا يعزلها عن تسمية الله لها الأمة: ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هّذا .. ) .
3- لم تنتم إلى أحد من البشر غير محمد صلى الله عليه وسلم .
4- لم تدن لله بعقيدة غير عقيدة السلف من الصحابة, والتابعين والأئمة المعتد بهم رضي الله عنهم أجمعين .
5- لم تلتزم بمنهج فقهي غير مذهب الإمام أحمد ببن حنبل رحمه الله أحد المذاهب المعتد بها بين أهل السنة .
6- لم تعط ولم تأخذ بيعة غير البيعة الشرعية لولي الأمر .
7- لم ترفع رمزا أو شعارا غير شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
8- تتبعت خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله بأمر الله, فبدأت بما بدأ به رسول الله, والرسل من قبله, بتوحيد الله بالعبادة, وعدم صرفها لغيره, ولو كان ملكا مقربا, أو نبيا مرسلا ,أو وليا شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة .
9- تتبعت خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتماس الحماية البشرية بإذن الله للدعوة الوليدة حتى تبلغ أمر الله .
10- ولما اشتدت ساعدها أقامت الحدود, وحكمت شرع الله في جميع أمور الدين والدنيا وجاهدت: ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .
وصدق الله وعده, وأعز جنده ونصر عباده الداعين إلى دينه الحق .. ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .. ) وسقطت أوثان الأضرحة, والقبب والأشجار تارة أخرى بعد أن أعادها الجهل والانحراف إلى جزيرة العرب . واستخلف الله عباده الموحدين في أرض الجزيرة كما استخلف الذين من قبلهم, ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم, وبدلهم من بغد خوفهم أمنا يعبدونه لا يشركون به شيئا . وفتح الله لهم خزائن الأرض, فجمع لهم خير الدنيا إلى خير الدين، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم, ورزقهم من ثمرات الأرض كلها لعلهم يشكرون، وسيبقى الأمر كذلك بإذن الله ما حفظوا عهدهم مع الله - ثبتهم الله على ذلك - .
11- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على منهاج النبوة وظيفة رسمية مستقلة في نظامها الإداري .
12- الأذان للصلاة فيها, إيذان إجباري بترك البيع والتجارة والعمل واللهو حتى تقضى الصلاة كما أمر لله.
13- فرض الحجاب وفصل الرجال عن النساء في جميع مراحل العلم والعمل .
14- لا تمنح جنسيتها إلا لمسلم تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع فيها دينان. (15)
15- أحيت ما اندثر من التراث العلمي السلفي من كتب الحديث والأثر وكتب الأئمة المجددين.
16- أنشأت المعاهد و الجامعات الشرعية, وانتفع منها خلق كثير من أبناء العالم الإسلامي فكانوا أئمة في بلادهم في نشر التوحيد والسنة.
17- هيأت الحرمين الشريفين للحجيج والمعتمرين والزائرين بالتوسعة والعمارة بما لم يشهد قبل ذلك. فهذا تجديد دعوة التوحيد يبدأ فبل قرنين في قرية صغيرة من صحراء جزيرة العرب, القاحلة الممزقة إلى إمارات صغيرة لا تملك شيئا يذكر من حظ الدنيا أو الآخرة, فيوحد الله بها أهل الجزيرة بعد الفرقة, ويطعمهم بعد الجوع ويؤمنهم بعد الخوف, ويحول الله بها الجزيرة دولة واحدة مترامية الأطراف مميزة في دينها ودنياها يقصدها طالب العلم والدين وطالب الأمن والمال من كل مكان
فصل فَقال شيخ الإسلام بن تيمية: " فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا, حاله خير من حالهم, فإن الأمر الذي يشترك فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه ." (16) فهذا الكلام من هذا الإمام يدل على أن أعظم الأمور التي تضر بعامة المسلمين أن يكون رؤوسهم من أهل البدع, والتي حقيقتها تبديل الدين عقيدة, وتدينا, أو التساهل معهم في في نشر باطلهم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}, محمد26
وأن ملوك أهل السنة مهما بلغوا من الظلم فهم خير منهم, وذلك أن الدين سالم من التحريف قال الشيخ عليه رحمة الله: " وهذا مما يقتضى أنه لا يجوز أن يؤيد الله كذابا عليه بالمعجزات التي أيد بها أنبياءه الصادقين, فإن هذا شر عام للناس, يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وليس هذا كالملك الظالم, والعدو فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه.
وقد قيل: ستون سنة بامام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام, وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك ضرر في الدنيا, كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها, ويرجعون فيها إلى الله ويستغفرونه, ويتوبون إليه, وكذلك ما يسلط عليهم من العدو.
وأما من يكذب على الله, ويقول أي يدعى أنه نبي فلو أيده الله تأييد الصادق, للزم أن يسوى بينه, وبين الصادق, فيستوى الهدى والضلال, والخير والشر, وطريق الجنة وطريق النار, ويرتفع التمييز بين هذا وهذا, وهذا مما يوجب الفساد العام للناس في دينهم, ودنياهم, وآخرتهم.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم: بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع, كالخوارج, وأمر بالصبر على جور الأئمة, ونهى عن قتالهم والخروج عليهم, ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة ." (17)
فصل وهذه المفاهيم الشرعية السلفية لم يدركها كثير من أصحاب الدعوات المعاصرة, ولهذا لم تثمر الثمرات التي جاءت في القرآن, لمن أقام القرآن, مع أنَّ النيات قد تكون طيبة, ولكن هذا لا يكفي, وإلا لما احتيج الى الشريعة, وقد روى البخاري: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: قال سُلَيْمَانُ بن دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام: (( لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ على مِائَةِ امْرَأَةٍ, أو تِسْعٍ وَتِسْعِينَ, كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ, فقال له صَاحِبُهُ: قل إن شَاءَ الله, فلم يَقُلْ إن شَاءَ الله, فلم يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ, جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لو قال إن شَاءَ الله لَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ)), (18) فمع هذا القصد النبيل في إنجاب الذرية, وهو الجهاد في سبيل الله ولكن لم يتم ما أراد, لأنه لم يقل إن شاء الله, أي لم يعلق ذلك بمشيئة الله, وربما كان ذلك نسيانا, وهذا يدل على أن الفشل الذي لازم بعض الدعوات المعاصرة كان بسبب الإخلال بشرع الله ومنهاجه, وإلا فقد قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ },غافر51.
فصل وعليه فإن النصيحة التي تقال في مثل هذا المقام للمسلمين في بلاد الحرمين رعاة ورعية:
أن يتمسكوا بالمنهاج الذي قامت عليه دولتهم, وأن يحذروا من التبديل, فإن سنن الله في الأمم ثابتة كالشمس تشرق وتغرب قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ},المائدة68 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ},المائدة66 وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ },النحل36 وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ },الروم9 وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ},الدخان25 وقال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً },الإسراء8.
وأعظم أمر يسبب الفساد في الأرض الشرك بالله, قال الشيخ: "والشرك أعظم الفساد, كما أن التوحيد أعظم الصلاح, ولهذا قال: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم أنه كان من المفسدين .. إلى أن ختم السورة بقوله: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا), وقال: (وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا), وقال: (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا), وقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)
فاصل الصلاح التوحيد والإيمان, وأصل الفساد الشرك والكفر, كما قال عن المنافقين: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون), وذلك أن صلاح كل شيء أن يكون بحيث يحصل له, وبه المقصود الذي يراد منه" (19)
وقال: " فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله, كان ذلك صلاح الدين والدنيا, وإن انفرد السلطان عن الدين او الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس, وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح, كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لاينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم, وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))" (20). وقال: " فأما إذا كانت البدعة ظاهرة تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة كبدعة الخوارج, والروافض, والقدرية والجهمية فهذه على السلطان إنكارها, لأن علمها عام كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر, وترك الصلاة ونحو ذلك. " (21)
فصل وأما المنتسبون للعلم فهم على ضروب:
"وأعداء الدين نوعان الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) في آيتين من القرآن، فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس, ولم تبين للناس, فسد أمر الكتاب وبدل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين, قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا, ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم), فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء, بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم, فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم, وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين, فلا بد من التحذير من تلك البدع, وان اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم, بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى, وأنها خير, وأنها دين, ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها ." (22).
" وبازاء هؤلاء المكفرين بالباطل, أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة, كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه, وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه, ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة, ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم, بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا, لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة, والإجماع وما يقوله أهل البدعة والفرقة, أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة, كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع, وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة, وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة, كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام, وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة ." (23)
فصل " ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء, لما لم يتبين له الهدى في طريقه نكص على عقبيه, فاشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه, وفرجه, أو رياسته وماله, ونحو ذلك, لعدم العلم واليقين الذي يطمئن إليه قلبه وينشرح له صدره, وفي الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم, وفروجكم, ومضلات الفتن)), (24) وهؤلاء المعرضون عن الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا, اتباع شهوات الغي, ومضلات الفتن, فيكون فيهم من الضلال والغي بقدر ما خرجوا عن الطريق الذي بعث الله به رسوله.
ولهذا أمرنا الله أن نقول في كل صلاة : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين), وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضالون)). (25)
وكان السلف يقولون: [احذروا فتنة العالم الفاجر, والعابد الجاهل, فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون], (26) فكيف إذا اجتمع في الرجل الضلال والفجور. "(27)
فصل
" كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول علي الله غير الحق في فتواه وحكمه, في خبره والزامه, لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس, ولا سيما أهل الرياسة, والذين يتبعون الشبهات, فإنهم لا تتم لهم أغراضهم, إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا, فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات, لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق, ولا سيما اذا قامت له شبهة, فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى, فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق, وان كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبة فيه, أقدم على مخالفته, وقال لي مخرج بالتوبة, وفى هؤلاء وأشباههم قال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات), وقال فيهم أيضا: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وان يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون), فاخبر سبحانه أنهم اخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم, وقالوا سيغفر لنا, وان عرض لهم عرض آخر أخذوه, فهم مصرون على ذلك, وذلك هو الحامل لهم على ان يقولوا على الله غير الحق, فيقولون هذا حكمه وشرعه, ودينه, وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك, أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه, فتارة يقولون على الله مالا يعلمون, وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه.
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا, فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة, وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة, ويستعينوا بالصبر والصلاة, ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها والآخرة وإقبالها ودوامها, وأولائك لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل, فيجتمع لهم الأمران, فإن إتباع الهوى يعمى عين القلب, فلا يميز بين السنة والبدعة, أو ينكسه فيرى البدعة سنة, والسنة بدعة, فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا, واتبعوا الرياسات والشهوات. "(28)
فصل
وختاما: فإني أذكر بما جاء في كتاب الله من التحذير من الكفر بالنعم, وأعظمها نعمة التوحيد والإتباع, وأن استبدالها وتركها, سبب لزوال النعم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ },إبراهيم28 وقال تعالى عن قوم سبأ: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ},سبأ19 وقال تعالى عن بني اسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ},البقرة61 .
ونعمة اجتماع أهل هذه البلاد بعد الفرقة, وليس مجرد إجتماع على الدنيا بل هو على الدين والدنيا, وما أعظمها من نعمة لا يعرف قدرها تمام المعرفة إلا من عرف ما يضادها, قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ},الأنفال26 وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}العنكبوت67وقال تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ},آل عمران103
فهي ثلاث نعم لا يتم صلاح الدين والدنيا إلا بها: نعمة الإجتماع على العقيدة, ونعمة الإجتماع على الشريعة, ونعمة الإجتماع على الولاية, بينها نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله (( إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا, وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا, فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعا ولا تَفَرَّقُوا, وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وقال وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ )), (29) اخرجه مسلم من حديث أبي هريرة, وكذا قوله عليه السلام: (( لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ, إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ )), (30) رواه أهل السنن واسناده صحيح, قال ابن القيم رحمه الله معلقا عليه: " وقوله ومناصحة أئمة المسلمين هذا أيضا مناف للغل والغش, فإن النصيحة لا تجامع الغل, إذ هي ضده, فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل, وقوله: ولزوم جماعتهم هذا أيضا: مما يطهر القلب من الغل والغش, فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه, ويكره لهم ما يكره لها, ويسوؤه ما يسؤوهم, ويسره ما يسرهم, وهذا بخلاف من انجاز عنهم, واشتغل بالطعن عليهم, والعيب والذم لهم كفعل الرافضة والخوارج, والمعتزلة وغيرهم, فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا, ولهذا تجد الرافضة ابعد الناس من الإخلاص و أغشهم للائمة, والأمة وأشدهم بعدا عن جماعة المسلمين "(31) , والحمد لله رب العالمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه احمد في مسنده: (4/440), وأخرجه البخاري في صحيحه: (3/1335), وأخرجه مسلم: (4/1964), وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (15/123), وأبو داود في سننه: (4/214). (2) أخرجه مسلم: (4/1965). (3) أخرجه احمد في مسنده: (4/102), وأخرجه الحاكم في صحيحه: (1/218), وأبو داود في سننه: (4/198), والطبراني في المعجم الكبير: (19/376). (4) أخرجه احمد في مسنده: (5/218), وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (15/94), والترمذي في سننه: (4/475), والنسائي في سننه الكبرى: (6/346), والطبراني في المعجم الكبير: (3/244). (5) أخرجه احمد في مسنده: (3/84 ), وأخرجه البخاري في صحيحه: (3/1274), وأخرجه مسلم: (4/2054), وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (15/95).
(6) أخرجه احمد في مسنده: (2/325), وأخرجه البخاري في صحيحه: (6/2669). (7) سبق تخريجه. (8) سبق تخريجه. (9) أخرجه احمد في مسنده: (4/369 ), وأخرجه البخاري في صحيحه: (6/2667), وأخرجه مسلم: (3/1523), وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (15/231), وابو داود في سننه: (3/4). (10) انظر اقتضاء الصراط: (1/5). (11) انظر مجموع الفتاوى: (20/300). (12) انظر مجموع الفتاوى: (28/533 ). (13) انظر التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: (1/28). (14) انظر مجموع الفتاوى: (22/344). (15) انظر رسالة الدعوة الى الله في جزيرة العرب للعلامة الرباني الشيخ المحقق سعد الحصين. (16) انظر منهاج السنة النبوية: (6/418). (17) _ انظر مجموع الفتاوى: (14/268). (18) أخرجه احمد في مسنده: (2/275), وأخرجه البخاري في صحيحه: (3/1038), والنسائي في سننه الكبرى: (6/385). (19) انظر مجموع الفتاوى: (18/162). (20) انظر مجموع الفتاوى: (28/394). (21) انظر مجموع الفتاوى: (3/239). (22) انظر مجموع الفتاوى: (28/232). (23) انظر مجموع الفتاوى: (12/467). (24) أخرجه احمد في مسنده: (4/420), والطبراني في المعجم الصغير ( الروض الداني ): (1/309), و البزار في مسنده: (9/308). (25) اخرجه الترمذي في سننه: (5/204). (26) انظر شرح السنة: (1/318), وحلية الأولياء: (7/36). (27) انظر درء التعارض: (1/165). (28) انظر الفوائد: (1/100). (29) أخرجه احمد في مسنده: (2/360), وأخرجه مسلم: (3/1340), أخرجه ابن حبان في صحيحه: (8/182). (30) أخرجه الحاكم في صحيحه: (11/162), وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (2/455), و ابن ماجه في سننه: (1/84), و الترمذي في سننه: (5/34), والدارمي في سننه: (1/86). (31) انظر مفتاح دار السعادة: (1/72).
|