المسؤولية
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ذكر الألباني ـ رحمه الله ـ في سلسلته الصحيحة ، حديثا عن النبي r وحسنه ، أنه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ قال : (( لا بد من العريف ، والعريف في النار )) ، ومعنى هذا الحديث ، أن الناس كي تنجح أعمالهم ، وتصلح شؤونهم ، لابد لهم من عريف ، أي بمفهومنا الآن ، مسئول ، يشرف عليهم ، ويضبط أمرهم ، إذ لا يصلح الأمر فوضى هكذا ، لا يمكن أن ينجح أي عمل ، إذا كان عاملوه ، كل يعمل على مزاجه وهواه ، فلا بد من العريف ، ولكن هذا العريف ، إذا ضيع مسئوليته ، وخان أمانته ، واستغل مكانته ، وجعلها لمصالحه الذاتية ، ومنافعه الشخصية ، فهو والعياذ بالله في النار . هذا أيها الأخوة معنى الحديث . (( لا بد من العريف والعريف في النار )) فشأن المسؤولية شأن عظيم ، ليست هي كما يتصورها بعض الناس ، الذين تشرأب لها أعناقهم دون تفكير في عواقبها ، أو تأمل في نتائجها وما يترتب عليها بعد ذلك .
ففي هذا الحديث ، وفي غيره من الأحاديث ، تحذير لمن بلي بإدارة الناس ، أو رئاستهم ، من تبعات ذلك ، وحث لكل مسؤول بأن يكون أهلا للمسؤولية ، وإشارة منه r إلى أنه يوجد ، من يتولى شؤون الناس لا ليصلح أمورهم ، إنما يحرص على المسؤولية والإدارة من باب الشهوة الخفية التي قال عنها النبي r : (( أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية )) .
وقد أخبر r ، بأنه يأتي على الناس زمان ، يكون فيه بعض المسؤولين ، غير أهل للمسؤولية ، فقد تجد مديرا أو تجد رئيسا ، تسند إليه أمور الناس وهو غير كفئ لذلك ، فيكون بوجوده ضياع الحقوق ، وتعطيل المصالح ، يقول النبي r والحديث في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة t : (( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة )) قال : كيف أضاعتها يا رسول الله ؟ قال r : (( إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) .
بل ـ أيها الأخوة ـ وهذه من المآسي التي سوف تمر بهذه الأمة ، أنه من باب إسناد الأمر إلى غير أهله ، أن من الناس ، من يترك العلماء الكبار ، ويذهب يلتمس العلم عند الأصاغر ، كما قال النبي r : (( إن من أشراط الساعة ، ثلاثا ، إحداهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر )) ، فهذه مصيبة ـ أيها الأخوة ـ مصيبة عندما يترك الأكابر ، ويطلب العلم عند أصاغر الناس .
يقول ابن مسعود t : لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد r ومن أكابرهم ، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا .
أيها الأخوة المؤمنون :
يخطأ كثير من الناس في فهم المسؤولية ، فكثير هم الذين يعتبرونها للرفعة والافتخار ، ويتخذونها بوابة للترف والسيطرة والظهور ، فغاية أماني أحدهم ، أن يجلس على كرسي دوار ، على طاولة عريضة ، قد خط عليها المدير فلان آل فلان ، يأمر وينهى ، ويشار إليه بالبنان ؛ المدير فلان ؛ ولهذا الخطأ في الفهم ، صارت المسؤولية محلا للتنافس ، وضاعت بين الطمع وضعف الدين .
المسؤولية ـ أيها الأخوة ـ هي كما أخبر عنها النبي r : (( نعم المرضعة ، وبئست الفاطمة )) نعم المرضعة ؛ في هذه الدنيا ، لما تجر على صاحبها من المنافع الدنيوية ، ولكن بئست الفاطمة ، بالموت الذي يهدم لذتها ، وبالسؤال يوم القيامة عن القيام بواجبها ، حينما تؤدى الحقوق ، وترد المظالم ، ويحاسب كل مقصر على تقصيره ، يقول النبي r : (( ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك ، إلا أتى الله مغلولا ، يده إلى عنقه ، فكه بره ، أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة )) .
بئست الفاطمة ، حينما يقف أصحاب الشهوات ، بين يدي الله يسألهم ، كما قال النبي r : (( إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه ؛ أحفظ ذلك أم ضيعه ؛ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته )) .
فليعلم هذا ـ يا عباد الله ـ كل من ضن أن المسؤولية أمر هين ، وأنها مجرد أمر ونهي وسيطرة على مجموعة من الناس ، وليعلم ذلك ، من أضاع أمانة المسؤولية ، وجعلها للسمعة والرياء ومدارات الناس له ، ونظرهم لوجهه وخدمته ، وليعلم هذا أيضا من جعلها وسيلة لتحقيق مآربه ، ومن رضي بها ، ليتحرر من المسؤولية ، ليذهب ويجيء على كيفه .
ليتق الله هؤلاء وغيرهم ، وليؤدوا أمانة المسؤولية ، فإنهم سوف يسألون ، فليعدوا لذلك السؤال جوابا ، قبل أن يقع بحقهم قول النبي r : (( ليتمنين أقوام ولّوا هذا الأمر ، أنهم خروا من الثريا ، وأنهم لم يلوا شيئا )) .
إن المسؤولية ـ أخوتي في الله ـ أمانة ، واستغلالها وعدم تأديتها ، والتقصير فيها ، خيانة من أعظم الخيانات ، وقد أمر الله بتأدية الأمانة ، وحرم الخيانة فقال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا { وقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { .
إن استغلال المسؤولية ـ أيها الأخوة ـ لمصلحة ذاتية ، أو منفعة شخصية ، جريمة الجرائم ، وكبيرة الكبائر ، حذر منها النبي r ، وأخبر بسوء عواقبها ، وخبث نتائجها ، ففي الحديث عن أبي حميد الساعدي t قال : استعمل النبي r رجلا من الأزد ، يقال له : ابن اللتبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي إلي ، فقام رسول الله r على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (( أما بعد : فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله ، فيأتي فيقول : هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي ؛ أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه ؛ حتى تأتيه هديته إن كان صادقا ، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه ، إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة ، فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر )) ثم رفع r يديه حتى رؤيا بياض إبطيه فقال : (( اللهم هل بلغت ؟ )) . فاتقوا الله عباد الله ، وقوموا بمسؤولياتكم على الوجه المطلوب ، فإنكم مسؤولون أمام الله ، فأعدوا للسؤال جوابا وللجواب صوابا ، وتذكروا قول نبيكم r حيث قال : (( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي ؟ أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل )) .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة ،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ليس الهدف من هذا الحديث ، أن نتخلى عن المسؤولية ، ونبتعد عن إدارة الناس ، لا أخوتي في الله ، فالمسؤول الذي يقوم بواجبه ، ويؤدي أمانته ، أجره عند الله عظيم ، ويوسف عليه السلام ، عرض نفسه على أن يكون مسؤولا على مالية مصر فقال لعزيزها : } اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ { ولا يعني حديثنا أن الساحة خلت من الأخيار الذي هم أهل للمسؤولية ، لا أخوتي في الله ، فهناك من هو قائم بها على الوجه المطلوب ، كما قال تعالى : } فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ { فهم يعملون على إنجاح أعمالهم ، ورعاية شئون رعاياهم ، وإدارة أمورهم ، مراقبين الله في ذلك ، متبعين لتوجيهات نبيهم ، مطيعين لولاة أمرهم .
والناس شهود الله في أرضه ، كلما ذكر أحد هؤلاء ، أثني عليه ، ودعي له ، لا لأنه يعطي الناس من جيبه ، وإنما لأنه يحرص على حقوقهم ، ولا يكون سببا في تعطيل مصالحهم ، ولأنهم عنده سواسية ، لا يحابي قريبا لقرابته ، ولا صديقا لصداقته .
وأخيرا أخوتي في الله ، أذكر من رأى في نفسه ضعفا أمام المسؤولية ، بأن يتخلى عنها ، وأن يعتذر منها فهي كما قال النبي r لأبي ذر ، حيث قال : (( يا أبا ذر ، إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها )) وفي رواية عنه r أنه قال : (( يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تتأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم )) .
فاتقوا الله عباد الله ، اتقوا الله بفعل أوامره ، وبالبعد عن مناهيه ، إلا وإن مما أمركم به الصلاة على رسوله ، فقال جل من قائل عليما :
} إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { ، و عنه r قال : (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا فيه من الصلاة علي )) ، وقال r : (( من صلى علي صلاة واحده صلى الله عليه بها عشرا )) ،
فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين ، وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك عز الإسلام ونصر المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ، وبالنصارى الحاقدين ، وبكل من عادى عبادك المؤمنين . اللهم أرنا بأعدائنا عجائب قدرتك ، وفجاءة نقمتك ، وأليم عذابك ، وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين . اللهم اجمع كلمتنا ، وقوي شوكتنا ، ووحد صفنا ، وألف بين قلوبنا على الحق المبين يا رب العالمين .
اللهم وفق ولاة أمرنا ، وارزقهم البطانة الصالحة واصرف عنهم بطانة السوء يارب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار يا رب العالمين ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنا ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون .
|