(لقد خلقنا الإنسان في كبد)
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واستَعِدُّوا بِطاعةِ اللهِ قبلَ موتِكِم, واعلمُوا أنَّ العبدَ لَنْ يّذوقَ طَعمَ الراحةِ الحقِيقِي, إلا إذا وَضَعَ قَدَمَه في الجنة, وأمَّا قَبْلَ ذلك, فَلَيْسَ هُناكَ راحة, فَلَا تُشْغِلْ نَفْسَكَ بِالبَحْثِ عَنِ الراحةِ والدَّعَةِ والسُّكُون, لأنك لَنْ تَنَالَ ذلك, فَلَا تُتْعِبْ نفْسَكَ بالبَحْثِ عَنها, وأَشْغِلْ نفسَكَ بِما تَحْصلُ لَكَ بِه الراحةُ في الآخرة, والتي لَنْ تَذُوقَها ما لَمْ تُخَلِّفْ جِسْرَ جهنَّمَ خَلْفَك, وتَدْخُلْ مِن بابِ الجنة, وأما قَبْلَ ذلك فَقَدْ أقْسَمَ اللهُ تعالى, أنهُ خَلَقَ الإنسانَ في كَبَد. والكَبَدُ: هو التَّعَبُ والمَشَقَّةُ والشِّدَّة. فلا بُدَّ أنْ يُقاسيَ أنواعَ الشدائِدِ مِنْ وقْتِ نَفْخِ الرُّوحِ إلى حِينِ نَزْعِها. قال الله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) والمَعْنَى: لقد خَلَقْنا الإنسانَ لِهذِه الشدائِدِ والآلامِ، التي هِيَ مِن طَبِيعَةِ هذِه الحياةِ الدنيا، والتي لا يَزالُ يُكابِدُها وَيَنُوءُ بِها، ويَتَفاعَلُ مَعَها, حتى تَنْتَهِيَ حياتُه. وَلَا فَرْقَ في ذلكَ بَيْنَ غَنِىٍّ أو فقير، وَحاكِمٍ أو مَحْكُوم, وصالِحٍ وغيرِ صالح. فَالكُلُّ يُجَاهِدُ ويُكَابِدُ ويَتْعَبُ، مِنْ أَجْلِ بُلُوغِ الغايةِ التي يَبْتَغِيها. فأولُ أَمْرِ هذا الإنسان, أَنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ أباه آدمَ مِنْ طِين، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مُتَسَلْسِلاً, كما قال تعالى: ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليه ) أي: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ مُسْتَقْذَرٍ ( نَبْتَلِيهِ ) بِذَلكَ لِنَعْلَمَ هَلْ يَرَى حالَه الأُولى ويَتَفَطَّنُ لها, أَمْ يَنْساها وتَغُرَّهُ نَفْسُه؟. ثُم بعد ذلك يُكَابِدُ قَطْعَ سُرَّتِه، ثم يُشَدُّ ويُرْبَطُ رِباطاً في مَهْدِه، فَيُكَابِدُ الضِّيقَ والتعبَ، ثم يُكابِدُ الإرتضاعَ الذي لَوْ حُرِمَه لَهَلَك أو كاد. ثُمَّ يُكابِدُ نَبْتَ أسنانِه وما يُصاحِبُها مِنَ الألمِ والحُمَّى، وكذلكَ يُكابِدُ تَحَرُّكَ لِسانِه وتَعَلُّمَ الكلامِ، ثم يُكابِدُ الفِطامَ، فإنَّ الفطامَ عن اللبنِ شَديدٌ على الطفل. وكذلكَ يُكابِدُ الخِتانَ وآلامَه، ثم يُكَابِدُ مرحلةً شديدةً في حياتِه, إذا لم يَتَجاوزْها فإنَّه سيفقِدُ كثيراً مِنْ مَصالِحِه, ألا وهي مَرْحلَةُ التَعَلُّم, فَيُكابِدُ الدراسةَ ومِشْوارَها الطويل, ويكابدُ المُعَلِّمينَ وشدَّتَهم وصَوْلَتَهُم وَهَيْبَتَهم ومُتابَعَتَهم له، وَكُلَّما تَجاوَزَ مَرْحلةً مِنْ مَراحِلِ التعليم, عَرَفَ أنه ما زالَ في أولِ الطريق, وهذا هو الذي يَجعَلُ الناسَ يَتَفاوَتُونَ في التَحصيلِ, على حَسَبِ ما يَمْلِكونَ مِنْ طُمُوحِ وصَبْرٍ على شَدائِدِ التَحْصِيل. ثُمَّ يُكابِدُ طَلَبَ الرِّزقِ, لأن العبدَ مأمورٌ بالاكتِساب، وَمَنْهِيٌّ عنِ العَجْزِ والتَكَاسُلِ وتَعْطِيلِ الأسباب، ثم يُكابِدُ الزواجَ وإعفافَ الفَرْجِ, والتَعْجِيلَ فيهِ, مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الوَلَدِ والذُرِّيَّةِ، ثم يُكابِدُ النفقةَ عليهِم وعلاجَهَم وتربيتَهُم, والصبرَ على أذاهُم وتعامُلِهِم. ثم يُكابِدُ البحثَ عَن مَسْكنٍ يُؤْوِيهِ وَمَنْ يَعُول. وكذلك يُكابدُ الصبرَ على الضَرَّاءِ, والشُكرَ على السَرَّاءِ, ويكابدُ أذَى الناسِ والصبرَ عليه. ويُكابِدُ الصبرَ على الطاعةِ, والصبرَ عن المعصية, لأنه مخلوقٌ لعِبادةِ الله, وقد قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( حُفَّت الجنةُ بالمَكارِه, وحُفَّت النارُ بالشَّهَوات ), ثم يُكابِدُ الكِبَرَ والهَرَمَ، وضَعْفَ الرُّكْبَةِ والقَدَمِ، في مَصائِبَ يَكْثُرُ تَعْدادُها، ونَوَائِبَ يَطُولُ إِيرادُها، مِنْ صُداعِ الرأسِ، وَوَجَعِ الأضراسِ، وَرَمَدِ العَيْنِ، وَغَمِّ الدَّيْنِ، وأَلَمِ الأُذُنِ. ويُكابِدُ مِحَنًا في المالِ والنَفْسِ، ولا يَمْضِي عليهِ يَوْمٌ في الغالِبِ إِلاَّ ويُقَاسِي فيهِ شِدَّةً، ويُكابِدُ فيه مَشَقَّةً، فَلَوْ كانَ الأَمْرُ إليه, ما اختارَ هذه الشدائِد. ولكن الأمرَ كُلَّهُ لِلّهِ العليمِ الحكيم. ثُمَّ بعد ذلك كُلِّهِ يُكابِدُ المَوْتَ وسَكْرَتَه، ثُمَ القَبْرَ وظُلْمَتَه وضَغْطَتَهُ التي لَنْ يَنْجُو مِنْها أَحَدٌ, ثُمَّ مُسَاءَلَةَ المَلَك, ثم البَعْثَ والعَرْضَ على الله، ثم المُرُورَ على الصراطِ المَمْدُودِ على مَتْنِ جَهَنَّم, إلى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِه القَرارُ، إمَّا في الجنةِ, وإما في النار.
فاتقوا الله أيها المسلمون, ولا تُلْهِيَنَّكُم الدنيا, فإنَّ الإنشغالَ بها يُنسِى الآخرةَ والإستعدادَ لها.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعلمُوا أَنَّ المُؤمِنَ إذا دخلَ الجنةَ فإنه يَعرفُ مكانَ مَنْزِلِهِ في الجنةِ, أكثرَ من معرِفتِهِ مكانَ بيتِه في الدنيا. والسَّبَبُ في ذلك, أنه عَرَفَ طَريقَ الجنةِ في الدنيا, فَسَلَكَه وسارَ عليهِ وجاهَدَ نَفسَهُ في الثباتِ عليهِ, وعَدَمِ الانحرافِ عَنْه, حتى لَقيَ الله, فأثابَه اللهُ بِأنْ هداه إلى الجنةِ, وإلى مَعْرِفَةِ مَسْكَنِهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يُرْشِدَه إليه أَحَد. وهذا هو مَعْنَى قولِه تعالى: ( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ). روى البخاريُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي اللهُ عنه, أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( إذا خَلَصَ المُؤمِنونَ مِن النار, حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بينَ الجنةِ والنار، يَتَقاصُّونَ مَظَالِمَ كانت بَيْنَهُم في الدنيا، حَتَّى إذا هُذِّبُوا وَنَقُّوا, أُذِنَ لَهُم في دُخُولِ الجنةِ، والذي نَفْسِي بِيَدِه، إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجنةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَنِزِلِهِ الذي كانَ في الدنيا ).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|