الإرشاد لفتنة الأموال والأولاد
الحمد لله السميع البصير ، والعليم القدير ، والحكيم الخبير ، } يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ولا ند ولا ضد ولا ظهير ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لعباده ، الأولين والآخرين . يقول - سبحانه وتعالى - في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله - أحبتي في الله - جعلني وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
كان حديثنا في الجمعة الماضية ، عن وجود الفتن وكثرتها في آخر الزمان ، ووجوب الحذر منها ، وهناك - أيها الأخوة - فتن يغفل عنها كثير من الناس ، وغفلتهم تكون على مقدار قربهم وبعدهم عن شرع ربهم ، وفقههم في الأدلة التي جاء بها دينهم ، وكما جاء في الحديث الصحيح : (( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ )) .
ومن هذه الفتن - أيها الأخوة - فتنة المال والأولاد ، فكثير هم الذين يقعون في هذه الفتنة ، وتأثر في حياتهم ، وتدمر مستقبلهم الحقيقي وهم لا يعلمون ، ولذلك قال U : } وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ { يقول ابن سعدي في تفسيره : أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة ، يبتلي اللّه بهما عباده ، وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها ، وترد لمن استودعها ، } وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ { .
فالأموال والأولاد - أيها الأخوة - من الفتن التي يجب الحذر منها ، ويتأكد توقي خطرها ، لأنها قد تكون وسيلة ، لضلال الإنسان ، وسببا من أسباب شقائه وعذابه ، ولذلك قال الله U ، محذرا من هذه الفتنة : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ { . فكونهم عدوا وفتنة - أيها الأخوة - ليس لذواتهم ، إنما عداوتهم وفتنتهم ، تكون بسبب أفعالهم ، وما تنتجه محبة المرء لهم ، ولا يوجد فعل أقبح وأخطر وأضر ، من الحيلولة بين العبد وطاعة ربه ، ومنعه من عمله بأوامر دينه .
إبراهيم - عليه السلام - عندما جاء إلى مكة ، ليتفقد ابنه إسماعيل ، ولم يجده ولكنه وجد زوجته ، سألها كما جاء في الحديث الصحيح : (( عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ ، فَقَالَتْ : نَحْنُ بِشَرٍّ ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ ؛ وَشَكَتْ إِلَيْهِ )) فشعر أن عندها ميلا إلى الدنيا ، وأنها غير مقتنعة في معيشتها مع زوجها ، وغير راضية بما كتب الله U لها ، فقال - عليه السلام - كما جاء في الحديث - : (( فَإذَا جَاءَ زَوْجُكِ اقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ )) أي يطلقها ، كما قال عليه السلام : (( ذَلِكَ أَبِي ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ ، فَطَلَّقَهَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى )) . طلَّقها لأنها عدو يجب التخلص منه .
أيها الأخوة :
فالمال والأولاد ، لاشك أنهما نعمة عظيمة ، ولكن إذا كانا يحولان بين المرء وطاعة ربه U ، ويثبطانه عن عمل ما يثقل موازينه يوم القيامة ، فلا شك أنهما نقمة من أعظم النقم ، وفتنة من أخطر الفتن ، تأملوا - أيها الأخوة - قول الله U : } قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ، وَأَبْنَاؤُكُمْ ، وَإِخْوَانُكُمْ ، وَأَزْوَاجُكُمْ ، وَعَشِيرَتُكُمْ ، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ، وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ، وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { .
بل - أيها الأخوة - جاء التحذير صريحا واضحا بينا ، بأن المال فتنة من فتن هذه الأمة ، يقول النبي r في الحديث الصحيح : (( لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ ، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ )) ففتنة المال فتنة خطيرة ، وأخطر منها إذا اجتمعت معها فتنة الأولاد ، وأكثر المنشغلين عن طاعة الله U ، البعيدين عن أمر الآخرة ، المقبلين على أمر الدنيا ، المقصرين المفتونين في حياتهم ، سبب ذلك كله : المال والأولاد ، ولذلك النبي r ، كما في الحديث الصحيح ، عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَخْطُبُنَا ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ الْمِنْبَرِ ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : (( صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : } إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ { نَظَرْت إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْت حَدِيثِي فَرَفَعْتهمَا )) .
فيجب علينا - أيها الأخوة - أن نحذر كل الحذر ، تأثير أموالنا وأولادنا في حياتنا ، ولا تعمي بصائرنا وأبصارنا محبتنا لهم ، وليكن رضى الله U ، خطا أحمرا ، عند تحقيق طلباتهم ، وتلبية رغباتهم ، وفي ذلك الخير كل الخير لنا ولهم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
يجهل بعض الناس ، ماهي فتنة الأموال والأولاد ، ولذلك يقع أكثر هؤلاء بهذه الفتنة وهم لا يعلمون ، ولعلنا - أيها الأخوة - نذكر بعض الأقوال التي تعرف هذه الفتنة ، فقد قال بعضهم : كلمة فتنة تحتمل معنيين:
الأول : أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد ، بمعني يختبركم ، فانتبهوا لهذا ، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء وتخلصوا وتتجردوا لله . U
والثاني - أيها الأخوة - : أن هذه الأموال والأولاد ، فتنة لكم ، توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله . U
أيها الأخوة المؤمنون :
وفي باب فتنة الأموال والأولاد ، روى البخاري في صحيحه ، أن حُذَيْفَةَ t ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ t ، مَنْ يَحْفَظُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ r فِي الفِتْنَةِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ )) إلى آخر الحديث .
فعلى هذا - أيها الأخوة - من وجد في نفسه ، تقصيرا أو إهمالا أو تكاسلا عن طاعة من الطاعات ، أو قربة من القربات ، بسبب أهل أو مال أو جار ، وكلنا - والله - كذلك ، فعليه الإكثار من الصلاة والصيام والصدقة ، لعل الله U أن يغفر له تقصيره ، و يتجاوز عن إهماله وكسله ، يقول U : } إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا { .
أسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يفقهنا في هذا الدين ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اعصمنا من الفتن ، وأحينا مسلمين ، وتوفنا مؤمنين ، غير خزايا ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتعم به وببركته الحاضر والباد ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|