أذية المسلمين
الحمد لله العظيم القهار ، القوي الجبار ، } يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ { ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أزكى الناس سيرة ، وأطهرهم سريرة ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته سبحانه لخلقه ، الأولين والآخرين ، يقول U من قائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
أذية المسلمين ، كبيرة من كبائر الذنوب ، وجريمة من أشنع الجرائم ، لا يقدم عليها إلا ضعاف الإيمان ، ولا يتجرأ عليها إلا من خف ميزان التقوى في قلبهم ، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه : عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : صَعِد رسولُ الله r المنبر ، فنادى بصوت رفيع ، فقال : (( يا معشرَ مَنْ أسلم بلسانه ، ولم يُفْضِ الإِيمانُ إِلى قلبه ، لا تُؤذُوا المسلمين ، ولا تُعَيِّرُوهم ، ولا تَتَّبِعُوا عوراتِهم، فَإِنَّهُ من تَتبَّع عورة أخيه المسلم ، تَتبَّع الله عورتَه ، ومَن تتبَّع اللهُ عورَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو في جوف رَحْلِهِ )) فأذية المسلمين ـ أيها الأخوة ـ هي نتيجة من نتائج ضعف الإيمان وقلة الدين والتقوى ، وثمرة مرة ، من ثمار عدم الخوف من الله U . ولذلك ـ أيها الأخوة ـ الذي لا يتورع عن أذية المسلمين ، فإنه على خطر عظيم ، بل يخشى عليه من دخول النار ـ والعياذ بالله ـ ففي الحديث ، حسن الإسناد ، في مسند الإمام أحمد ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ! قَالَ r : (( هِيَ فِي النَّارِ )) فهذه المرأة ـ أيها الأخوة ـ صاحبة صلاة وصيام وصدقة ، ولكنها لا تتورع عن إيذاء جيرانها بلسانها ، فأخبر النبي r بأنها في النار ، لهذا السبب الخطير .
أيها الأخوة :
بعض الناس ، نسأل الله السلامة والعافية ، يتساهل في إيذاء المسلمين ، حتى صار إيذاؤه لهم ، عادة وطبعا وهواية ، وهو من أهل الصلاة والصيام والصدقة ، فهذا لن يستفيد من صلاته ولا من صدقته ولا من صيامه ، هذا هو المفلس بعينه ، الذي يدخل النار بسبب سيئات غيره ، كما أخبر النبي r في الحديث الذي رواه مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه ، عن أبي هُريرةَ t : أنَّ رسولَ الله r ، قَالَ : (( أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ ؟ )) قالوا : المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع ، فَقَالَ : (( إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي ، مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مالَ هَذَا ، وسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه ، قَبْل أنْ يُقضى مَا عَلَيهِ ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ )) .
أرأيتم ـ أيها الأخوة ـ خطورة إيذاء المسلمين ، فقد جعلت هذا المسكين ، لا يستفيد من صلاته وصيامه وزكاته ، تقاسم الذين كان يؤذيهم حسناته ، فلما فنيت حسناته ، تقاسم سيئات الباقين ، فكان مصيره إلى النار } وَبِئْسَ الْقَرَارُ { .
أيها الأخوة :
بعض الناس ، لجهله وعدم فقهه في شرع ربه ، عندما يسمع بتحريم إيذاء المسلمين ، يذهب فكره وعقله ، إلى طعنهم بالسكاكين ، أو ضربهم بالعصي ، أو سرقة أموالهم ، وهذا لا شك من أخطر أنواع الأذى ، ولكن صاحبنا ، يعتبر من المتورطين في أذية المسلمين ! لأنه يؤذيهم بذكرهم بما يكرهون في مجالسه ، يؤذيهم إن كان موظفا ، في تعطيل مصالحهم وتأخير معاملاتهم ، يؤذيهم بعدم تربية أبنائه ، فيكتبون على جدرانهم ، ويكسرون لنباتهم ، ويتحرشون في بناتهم ، بل وفي أولادهم ، يؤذيهم في طرقاتهم ، يؤذيهم في نظراته الزائغة إلى محارمهم ، يؤذيهم بالاستهزاء بهم ، يؤذيهم بالسخرية منهم وتركيب النكت عليهم ، يؤذيهم بتتبع عثراتهم ، وتعظيم هفواتهم ، ونشر أسرارهم ، يؤذيهم في روائحه الكريهة ، كل هذا وغيره ، مما يتأذى منه المسلم ، عواقبه وخيمة ، وأثمه عظيم ، كما قال U : } وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا { يقول ابن سعدي في تفسيره : } بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا { أي : بغير جناية منهم موجبة للأذى .
فحري بك أخي المسلم ، أن تحذر وتجتنب ، ما يؤذي إخوانك المسلمين ، لأن في أذيتك لهم ، دليل على ضعف إيمانك ، وخطر على صلاتك وصيامك وصدقتك ، وقد تكون من المفلسين ـ والعياذ بالله ، بل عليك أن تحذر هذا الداء الخطير ، وتلك الجريمة العظيمة ، لأن الله U يكره ذلك ، كما في الحديث الصحيح ، عن النبي r : (( لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ وَاللَّهُ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ )).
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
لا شك أن إيذاء المسلمين ، كبيرة من كبائر الذنوب ، وسبب من أسباب سخط الله U على العبد ، وفيها دليل على عدم الخوف من الله ، وسوء الأخلاق وخبث النفس ، ويجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من الوقوع فيها ، ولكن ينبغي ، لمن بلي في أذى غيره ، أن يحتسب الأجر من الله U ، ففي الحديث الصحيح يقول النبي r : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ كَفَّرَ الله بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا )) .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا مجللا نافعا غير ضار ، عاجلا غير آجل ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|