تابع الأخوة الإيمانية
الحمد لله الرؤوف المنان ، الكريم القديم الإحسان ، الذي رفع أخوة الإيمان ، وقدمها على أخوة الأنساب والأوطان .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، جعل الإحسان جزاء للإحسان ، وأمر بالتعاون على البر والتقوى ، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وعد من أطاعه وخافه جنتان .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، بعثه رحمة للأنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، حيث قال U من قائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ اسأله U أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الأخوة الإيمانية ، كانت موضوع حديثنا في الجمعة الماضية ، وقد ذكرنا ـ أيها الأخوة ـ أن الأخوة الإيمانية ، هي من الأشياء الهامة ، التي تحتاجها الأمة اليوم ، لتنهض من كبوتها ، وتستيقظ من غفوتها ، وتستعيد هيبتها وهيمنتها بل وكرامتها ، وهويتها التي ضاعت بضياع ما تميزت به ، وفقدت بفقد صفاتها ومميزاتها ، ومن أهمها الأخوة الإيمانية ، التي اندرست معالمها ، فبلغت الأنانية ذروتها في مجتمعات المسلمين ، فصاروا أسما بلا مسمى ، وكيانا أجوفا ، يصدق عليهم قول نبيهم r : (( غثاء كغثاء السيل ، تتداعى عليهم الأمم ، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ولكي ندرك أهمية الأخوة الإيمانية ، وما آل إليه أمر أمتنا ، نتأمل قول الله تعالى : } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { ، هذه حال العرب ـ أيها الأخوة ـ قبل بعثة النبي r ، كان بعضهم يقتل بعضا ، وبعضهم يعادي بعضا ، فألف الله بين قلوبهم المتناحرة المتنافرة ، فصاروا إخوانا كالشخص الواحد ، بسبب هذا الدين العظيم ، فلن تقم لأمتنا قائمة ، إلا إذا فعلت الأخوة الإيمانية ، بين المسلمين ، ولن يتم ذلك إلا بالاعتصام بكتاب الله U ، وبالرجوع إلى منهج النبي r ، فحبل الله ، أي دين الله كما قال ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنهما .
أيها الأخوة :
فعندما نتأمل ونتدبر هذه الآية ، ندرك من أين أتيت أمتنا ، التي صار التفرق والاختلاف ، مرضا من أبرز أمراضها ، وداء أودى بحياتها ، وصدق الله : } وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ { فذهاب الريح : نحول العزائم ، وتفرق القوة ، ورفع ما وعد الله به من النصر ، وهذا واقع أمتنا ، الفاشلة بسبب التنازع ، نتيجة عدم طاعة الله ورسوله .
فما حل بأمتنا ـ أيها الأخوة ـ سببه اندراس معالم الأخوة الإيمانية ، التي ضاعت من أجل الدنيا وزخارفها وحطامها ، وما بقي منها ، قضي عليه باسم الدين ، حيث صار التآخي من أجل الجماعات والأحزاب ، والفرق والأعتاب ، فتآلفت القلوب من أجل المناهج والأفكار ، وتصافت النفوس من أجل الأهداف ، المبنية على الهوى ، البعيدة كل البعد عن حبل الله U . والنتيجة هي ماحذر منه ، الخبير بخلقه ، } وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن شأن الأخوة الإيمانية شأن عظيم ، ولن تعود هوية الأمة ، وتستعيد خيريتها ، إلا بعودة هذا الجانب الإيماني العظيم ، وكما قال تبارك وتعالى : } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ { فالتآخي من أجل الأحساب والأوطان والأنساب ، والجماعات والفرق والأحزاب ، يعطل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يجعل المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، كما هو واقع الأمة اليوم ، فالفخر بالأحساب والطعن بالأنساب من أجل صلة الرحم ، والتكفير والتفجير لنشر الدين ، والخروج على الحكام من أجل القضاء على المنكرات ، والمظاهرات من أجل القيام بالواجبات ، واستشارة عباد القبور ، والأخذ بآرائهم ، من أجل الدعوة إلى الله . ويا أمة ضحكت من جهلها الأمم .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحرص على أن تكون أخوتنا من أجل الله ، لا من أجل حسب ولا نسب ، ولا من أجل زمن ولا وطن ، ولا من أجل جماعة ولا حزب .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سيع مجيب ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن حديثنا عن الأخوة الإيمانية ، ليس للتسلية والقضاء على الوقت ، وليس هو من باب صلينا الجمعة فقط ، كما هو حال كثير من المسلمين ، الذين يأتون للجمعة ، ويعودون مثلما أتوا ، حيث صارت صلاة الجمعة عندهم عادة من العادات ، والدليل على صحة ما أقول ، أن أحدهم بلغ من العمر مبلغا لا بأس به ، ولم تفته جمعة واحده ـ ويشكر على ذلك ـ ولكنه لم يتغير فيه شيء ، غير بيته وغير سيارته وغير وظيفته وغير أصدقائه وغير استراحته ، ولكنه لم يغير شيئا من مخالفاته التي سمع شيئا عن حرمتها ، أو وجوبها ، في خطبة من خطب الجمعة ، فحديثنا في الجمعة ، وخاصة الأخوة الإيمانية ، إنما هو للعمل والتطبيق ، والذكرى التي تنفع المؤمنين .
أيها الأخوة :
فمسؤولية الأخوة الإيمانية ، وتفعيلها بين أفراد المسلمين ، مسؤولية كل مكلف ، يريد وجه الله والدار الآخرة ، وكما قالوا : بداية الغيث قطرة ، ومسافة الألف ميل تبدأ بخطوة ، فليتفقد كل واحد منا ، موقعه ومكانته في جانب الأخوة الإيمانية ، التي تثمر التناصح والمحبة ، وتؤدي إلى التواد والتعاطف والرحمة ، وتنتج الإيثار والنصرة ، وتجعله مع إخوانه كالجسد الواحد ، كما قال النبي r : (( إذا أشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر )) .
اسأله U علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم اجعلنا فيك أخوة متحابين متآلفين ، اللهم لا } تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ { ، } رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ { .
اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|