مجاهدة النفس
الحمد لله الودود الشكور ، العزيز الغفور ، الذي } يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
مجاهدة النفس ، وكفها عن الانشغال بغير عبادة الله تعالى ، أمر يغفل عنه أكثرنا ، وهو من الأهمية بمكان ، بل هو الجهاد الأكبر ، والأكمل ، ويعتبر جهادا بمعنى الكلمة للأعداء ، لأن النفس هي أحد أعداء الإنسان الثلاثة : الشيطان والنفس وعدو الدين ، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم ، ولله در القائل :
يا من يجاهد غازيا أعداء دين
الله يرجو أن يعان وينصرا
هلا غشيت النفس غزوا إنها
أعدى عدوك كي تفوز وتظفرا
مهما عنيت جهادها وعنادها
فلقد تعاطيت الجهاد الأكبرا
فنفسك ـ أخي المسلم ـ هذه التي تنساق خلف شهواتها وملذاتها ، فتكون الآمر الناهي لك ، هي عدو من أبرز أعدائك ، ولذلك عندما وصى ابو بكر الصديق ، عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ، حينما استخلفه قال في وصيته يا عمر : إن أول ما أحذرك : نفسك التي بين جنبيك .
ولما سأل أحدهم ، عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن الجهاد ، قال له : ابدأ بنفسك فجاهدها ، وابدأ بنفسك فاغزها . فمجاهدة النفس ـ أيها الأخوة ـ أمر مطلوب ، بل هو واجب وفرض عين على كل مسلم ، يجب على المسلم ، أن يكون في حرب مع نفسه ، التي وصفها الله U بقوله : } إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي { هذه النفس ـ أيها الأخوة ـ أمارة بالسوء ـ يصفها الخبير بها ، الذي يعلم ما ينفعها ويصلحها . يخبر عنها ـ سبحانه ـ عبده ليكون على حذر منها ، ويحاربها بتحميلها ما يشق عليها مما يرضيه سبحانه ، وما يكون سببا في سعادتها في الدنيا والآخرة ، لأن النفس الأمارة بالسوء ، من طبعها ، ميولها مع الهوى الذي يقيدها عن طاعة الله U ، ويقودها إلى نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ ولذلك قال U : } وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى { ، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ } وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى { عن الحرام الذي يشتهيه .
فالنفس الأمارة بالسوء ، من فطرتها وطبيعتها ، شهية ما حرم الله ـ جل جلاله ـ وحب الفجور والطغيان ، ولو تُركت لما أمرت بطاعة ولا تركت معصية ، ولذلك ـ أيها الأخوة ـ الصدق في مجاهدة النفس ، وقطع الطريق دون إرادتها ، سبب من أسباب الهداية ، ووسيلة من وسائل عدم الانحراف عن السبيل المستقيم ، كما قال ـ تبارك وتعالى : } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { أي الذين يبذلون جهودهم ، ويستنزفون طاقتهم ، في اتباع مرضاة الله ـ وهذه هي المجاهدة للنفس . } لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا { أي : الطرق الموصلة إلينا ـ كما قال ابن سعدي ـ رحمه الله تعالى في تفسيره ـ
أيها الأخوة المؤمنون :
فمجاهدة النفس ، يبقى معنا بقاء أنفاسنا ، وهو لا يحتاج لأسلحة فتاكة ، ولا لجيوش جرارة ، نجعل تعذرها مبررا لتقصيرنا ، وإقدامنا على ما لا يرضي ربنا ، إنما هو بحملها على اتباع أمر الله U ، واجتناب نهية ، حتى ننتصر عليها ، وتنقاد لنا لا للهوى والشيطان ، وصدق من قال :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وراعها وهي في الأعمال سائمة
وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهم
فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنعمل على جهاد أنفسنا ، لتخضع لطاعة ربنا ، ونقمع شياطيننا من الجن والأنس ، ونسموا بين أقراننا ، ونحصل على خير دنيانا وآخرتنا . ولنحذر ـ أيها الأخوة ـ الثقة الزائدة في أنفسنا ، فالعاقل لا يثق ، ولا يحسن الظن بعدوه ، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : لا يسيئ الظن بنفسه إلا من عرفها ، ومن أحسن الظن بنفسه ، فهو من أجهل الناس بنفسه . اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن لجهاد النفس ثمار يانعة ، وعواقب حميدة ، ونتائج نافعة بإذن الله تعالى ، وهل هناك أفضل من الجنة ـ يا عباد الله ـ ففي الحديث الحسن الصحيح ، يقول النبي r : (( إنَّ الشيطانَ قَعَدَ لابن آدم بأطْرُقه ، قَعَدَ في طريق الإسلام ، فقال : تُسْلِمُ وتَذَرُ دِينَك ودِين آبائك وآباء آبائِك ؟ فعصاه وأسلم ، وقَعَدَ له بطريق الهجرة ، فقال : تُهاجِرُ وتَذَرُ أرضك وسماءَك ؟ وإنما مَثَلُ المهاجر كَمَثَلِ الفرس في الطِّوَل )) أي الحبل (( فعصاه فهاجر ، ثم قَعَدَ له بطريق الجهاد ، فقال : تُجاهِدُ ؟ فهو جهد النفس والمال ، فتُقاتِل فتُقْتَل ، فتُنكَح المرأة ويُقسَم المال ؟ فعصاه فجاهد ،قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : فَمَنْ فَعَلَ ذلك كان حقَّا على الله أن يُدْخِلَهُ الجنة ، وإن غَرِق كان حقَّا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصَته دابته كان حقّا على الله أن يُدْخِلَهُ الجنة ))
فجهاد النفس ، أمر لا غنى عنه ، يحتاجه المسلم في حياته ، يبقى معه بقاء أنفاسه ، ويتأكد في هذا الزمان ، الذي كثرت فتنه ، وتنوعت مغرياته ، وظهرت منكراته ، وهيمن المهزومون من قبل أنفسهم ، وصدق r : (( المجاهد من جاهد نفسه )) .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفقنا جميعا لهداك ، واجعل عملنا برضاك ، واجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، اللهم فرج عن المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم عجل بفرج المسلمين في سوريا ، وفي فلسطين ، اللهم عجل بفرجهم ، وآمن روعهم ، واحقن دماءهم ، واحفظ أعراضهم ، وفك أسراهم ، واجبر كسرهم يارب العالمين .
اللهم احفظ لنا أمننا ، وسدد ولاة أمرنا ، ووفق علماءنا ودعاتنا ، اللهم من أراد بنا سوء ، وعمل على تفريق جماعتنا ، وتمزيق وحدتنا ، اللهم أشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تخطيطه وتدبيره سببا من أسباب تدميره ، يا قوي يا عزيز .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|