مقامات العبودية
في جائحة كورونا
الخطبة الأولى:
الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمدلله على الإسلام
والإيمان والقرآن، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن
محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمَّا بَعْدُ:
فاتقوا الله عباد
الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واحمدوا الله كثيرا
على أنْ خفف الله علينا من الوباء، حتى عُدنا لمساجدنا، وأكثروا من اللجأ والتضرع
والدعاء، بأن يجنبنا الله جل جلاله مضلات الفتن، فما استجلبت الخيرات والنعم بمثل
الدعاء، وما دفعت الشرور والنقم والبلاء بمثل الدعاء.
واعلموا أن ما فات من حظر في البيوت ومنعٍ من الاجتماع في المساجد وغيرها،
أثمر في القلوب أنواعا من التعبدات، وأورث مقاماتٍ من العبودية، ترفع من شأن العبد
وتَحطُّ من سيئاته، فمن هذه المقامات :
مقام الصبر على البلاء، الذي هو نصف الدين، فمن
صبر وصابر واحتسب جلسته في البيت، فقد فاز بالأجر العظيم قال تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). وقال تعالى: (إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). وقال صلى الله عليه وسلم:
(عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا
للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ
ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ).
ومن أنواع التعبدات ومقامات العبودية التي مرت: مقام طاعة ولاة الأمر
في هذه النازلة العظيمة والجائحة الكبيرة، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ). فخف
البلاء ونجا الناس وحفظت الأنفس، بسبب امتثال الناس وطاعتهم، وتركهم للمخالفة
والشقاق ومنازعة الأمر أهله، ففتح الله علينا من بركات الطاعة مالا نقدر قدره. قال
تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
ومن التعبدات التي مرت بنا: الحفاظ على جماعة المسلمين، وترك الخروج عن
الجماعة برأيٍ شاذٍّ أو فتوى مخالفة أو تصرف بعيد عما عليه جماعة المسلمين، قال
تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وقال تعالى:
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فالخلاف شر، والجماعة رحمة
والفرقة عذاب، ومن عوّد نفسه على هذه القاعدة العظيمة، برئت ذمته وطهرت نفسه وسلم
قلبه من الغل والحقد.
ومن تلك التعبدات التي مرت: التحسر على فوات الطاعة، والندم على
التقصير فيها، وخاصة الصلوات الخمس في المساجد وصلة الرحم، والعمرة والزيارة
والتراويح، فإن التحسر على فوات إقامتها في المساجد عبودية مستقلة، وإن كان الله
لا يضيع أجر المحسنين، وإذا كانت الشريعة تكتب عبادة المريض والمسافر وهم لم
يقوموا بها بسبب العذر،، فنسأل الله ان يكتب لنا أجر ما فاتنا بسبب هذا العذر الذي
هو أعظم من السفر ومجرد المرض، فهنيئا لمن كان محافظا على هؤلاء الصلوات قبل
الحظر، ونسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا وإضاعتنا قبل المنع.
ومن تلك التعبدات: الهم الذي أصاب الناس والخوف على أمة محمد صلى الله عليه
وسلم أن يكون أصابهم من قبل أنفسهم ومن قبل معاصيهم وتقصيرهم عقوبة أو غضب من
الله، قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم
مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ).. وأورث
هذا الهم والخوف، تضرع ولجأ لله وكثرة استغفار ودعاء أن يكشف الوباء وأن يرفع
البلاء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ
بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ). فهي من مقامات العبودية التي اختص الله بها من
شاء من عباده ووفقهم لها، ولعل ما أذن الله من عودتنا هذه الأيام قد يكون استجابة
لدعوة مصلي أو مصلية ألحّ على الله وتضرع؛ فأجيبت دعوته..
اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا، وارفع عن البلاء والوباء... بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون
واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً
لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ: عِبادَ الله: فإن أحسن الحديث كلام
الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبدالله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في الدين
بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار،،
ومن التعبدات ومقامات العبودية التي مرت على المسلمين: استشعار النعم التي
كانوا بها، والتي كانوا في غفلة عنها بسبب تعودهم عليها، واعتيادهم عليها، فضجت
ألسنتهم بالشكر والحمد والتمجيد، والثناء على الله، فلا يعرف قدر الصحة إلا
المريض، ولا يعرف قدر الطعام إلا الجائع، ولا يعرف قدر الأمن إلا من فقده.
فاللهم ارزقنا شكر نعمك وزدنا من فضلك، ونعوذ بجلال وجهك ان نكون عظة وعبرة
لغيرنا يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين
واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين،
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، اللهم إنا نعوذُ بك من سُوء القضاء، ومن
شماتة الأعداء، ومن درَك الشقاء، ومن جَهد البلاء، اللهم أنزلت الداء، فعلِّمنا
الدواء، وقوِّ عزائم المسعفين والأطباء، وامنن على المرضى بالشفاء، اللهم إنا نعوذ
بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم أصلح حال
المسلمين، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا،
واغنِ فقيرنا، وفرج كربنا، وتولَّ أمرنا، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها
وعقيدتها وسيادتها، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها وخارجها، اللهم أخرجها
من الفتن والشرور والأزمات، واجعلها أقوى مما كانت، وأمكن مما كانت اللهم أصلح
أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا
قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .